يزداد في هذه الأيام السجال الفقهي والسياسي والاجتماعي عن آلية تقنين قانون أحكام الأسرة، بعد قناعة جميع الأطراف بأهمية إصداره، وهذه مرحلة ولله الحمد تجاوزها الجميع. يحدث هذا بعد مرور ما يقارب الربع قرن على المطالبات النسائية والأهلية والحقوقية الأولى على إصدار قانون الأحوال الشخصية في البحرين، عبر لجنة الأحوال الشخصية، بهدف تنظيم الحقوق والواجبات بين أفراد الأسرة وفق الشريعة الإسلامية والمبادئ المذكورة في الاتفاقات والمواثيق الدولية التي وقعتها المملكة.
ويبدو أن آلية إقرار قانون أحكام الأسرة البحريني ستسلك مساراً صعباً، ما لم يحظ بتوافق مجتمعي وإدارة تشاركية من جميع الأطراف المعنية، وفي تقديري هم العلماء من الطائفتين الكريمتين، وأهل المهنة من حقوقيين وقضاة واختصاصيين في علم الاجتماع وعلم النفس، وفعاليات وجمعيات المجتمع المدني والجمعيات النسائية خصوصاً، وهيئات مساعدة النساء المتضررات من أحكام القضاء الشرعي والحكومة ومجلس النواب.
إن التكهنات الدائرة بإصدار القانون السني لوحده، وتأجيل الجعفري إن تحققت ستخلق تمايزا وتمييزا غير محمود بحق المرأة البحرينية، ونصبح كأننا عالجنا مطالبات نصف النساء البحرينيات فقط، في تأسيس لمزيد من الطائفية البغيضة، وفي الوقت الذي ننادي بعكسه في الندوات والكتابات التي تحث على التلاقي الوطني وفي المنابر الأهلية الكثيرة. إن أي عمل يقصي طرفا ما يبقى ناقصا، بغض النظر عن وزن القوة التي يملكها، لأن الموازين متغيرة، فعندما يتجاهل العلماء مطالب ونوايا الجمعيات النسائية والمدنية والناشطات لإنصاف المتضررات، يكون هناك إقصاء، وعندما تتجاهل الحكومة العلماء ومن يهتدي بهم من المواطنين يكون هناك إقصاء أيضا، وعندما ينفرد المجلس الأعلى بحملات إصدار القانون من دون التنسيق المسبق مع الجمعيات النسائية يكون هناك إقصاء.
إن إصدار قوانين أحكام الأسرة من المسائل الأكثر حساسية في المجتمعات العربية، والاختلافات تحدث بين أصحاب المذهب الواحد فما بالنا إذاً بالمجتمعات ثنائية أو متعددة المذاهب. وبتقديري فإن معالجة ملف إصدار القانون البحريني بحاجة إلى مواجهات حضارية بين جميع الأطراف في هياكل عمل كما حدث في التجربة المغربية، والاتفاق على جميع النقاط، بمعنى إدارة الخلاف بشكل جدي ونهائي، وعلى جميع الأطراف مراجعة التداعيات للعمل المنفرد من جهة واحدة. وهنا نسأل: أين ذهبت اللجان السابقة التي شكلتها وزارة العدل ووزارة الشئون الإسلامية التي كلفت بصوغ مسودة القانون الموحد؟ ولماذا لا نفكر في تجميع الأطراف على مائدة مستديرة بصلاحيات ومهمات تناسب المرحلة، وخصوصاً أن هيئات الحوار والمتابعة الممثلة للطائفتين وللمجتمع المدني اليوم نظمت نفسها في تنظيمات جديدة وفعالة. وعلى المائدة المستديرة هذه يطرح كل طرف تحفظاته، ويتوصل الجميع إلى توافق، قد لا يكون الأمثل بالنسبة إلى كل طرف ولكنه توافق ينبغي أن يكون معتدلاً ومحافظاً على حقوق الناس. وإن كان البعض يعتقد بأن هذه الفكرة قديمة فلماذا لا نلجأ للاستفتاء الشعبي كمخرج من عنق هذه الزجاجة؟ فالاستفتاء آلية ديمقراطية وجربت في البحرين لبدء مرحلة الانفراج السياسي، ومن سيمانع بحجة أن النتائج لن تكون على هواه. نقول إن هذه هي الديمقراطية وهي تحمل في طياتها الحلو والمر، ولا نملك إلا احترام وجهة نظر الناس وتطبيق المزيد من آليات الديمقراطية. ألا يستحق التوافق المجتمعي منا ذلك؟ فلا أحسب أن البحرينيين يريدون قانونا بأي ثمن، وما فائدة صدور قانون من طرف واحد ندرك سلفا أنه سيقاطع من قبل طائفة تمثل أكثر من نصف شعب البحرين، وندرك جيدا أن أحد أسباب هذه المقاطعة المتوقعة، هو انعدام الثقة في إنصافهم من قبل الحكومة والموالين لها، لما عاشه أبناء الطائفة من تمييز ممنهج في التعامل معهم استقر عقوداً طويلة؟
ولنا أن نسأل عن هذا الاستعجال الواضح للحكومة في تمرير هذا القانون قبل الانتخابات المقبلة، في الوقت الذي لم تهتم ودوائرها الرسمية اهتماما جديا طيلة فترة العقدين السابقين بنداءات الجمعيات النسائية الأهلية عبر لجنة الأحوال الشخصية منذ الثمانينات.
إن واقعنا الحالي يذكر بما مرت به المملكة المغربية من سجال مجتمعي متعدد الأطراف والتأويلات على مدى ثلاثة عقود قبل إصدار المدونة الجديدة. فالمغاربة يتحدثون عن فترة السجال التي سادت فيها المسيرات النسائية والدينية الحاشدة وكثرت فيها المناظرات والحوارات المباشرة وغير المباشرة، وانتشرت الاتهامات بأن التعديلات المنوي إدخالها على المدونة القديمة ذات مرجعية غربية وتمس بالشريعة الإسلامية وقامت الدنيا ولم تقعد، وكان الفقهاء من جهتهم يدافعون عن الشريعة باعتبار قانون مدونة الأحوال الشخصية آخر القلاع المحصنة التي بقيت تحت سلطة الفقه، وكانوا يخشون من أي غزو أو اختراق.
وكان على حد قول المغاربة تدافع كبير استوعبه ملكهم، ولكن كيف؟ في البداية كانت الدعوات الملكية لكل الممثلين إلى الاستماع إلى آرائهم، ثم تشكلت اللجنة الملكية الاستشارية لإصلاح المدونة من ستة عشر عضواً، وفي هذه اللجنة أعطي الموقع الأول للعلماء بحكم تخصصهم الفقهي ثم للجمعيات النسائية بصفتها منشغلة بالواقع والفعاليات المجتمعية وأهل المهنة ممن يعمل في القضاء والحقوقيين والنساء.
وبعد إعطاء الفرصة الكافية للجنة للعمل والتوافق، استرشد الملك محمد السادس بالنتائج وحسم المسألة بإعلانه (11) تعديلا جوهريا في مشروع مدونة الأسرة في خطابه التاريخي للمغاربة، يوم الجمعة 10 أكتوبر / تشرين الأول ،2003 وعن حاجة تلك التعديلات إلى مصادقة البرلمان عليها حتى تصبح سارية، ومن بين تلك التعديلات جعل الطلاق حلا لميثاق الزوجية يمارس من طرف الزوج والزوجة، وتوسيع حق المرأة في طلب التطليق، والحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاق الدولي وضمان مصلحة الطفل في الحضانة واعتبار الولاية حقا للمرأة، وتقييد التعدد، وتوحيد سن الزواج وإعطاء أبناء البنت الحق في الإرث من جدهم، وغيرها. وفي 3 فبراير / شباط 2004 صدرت مدونة الأسرة التي ألغت وحلت محل مدونة الأحوال الشخصية السابقة بتوافق ديني حداثي تبنى صوغاً حديثاً، وحذف المفاهيم التي تمس بكرامة وإنسانية المرأة، وجعل مسئولية الأسرة تحت رعاية الزوجين باعتبار النساء شقائق الرجال في الأحكام.
ويفتخر غالبية المغاربة بأن قانونهم جمع بين ثلاثة أشياء أساسية: تطور المجتمع المغربي والأسرة المغربية، ومسايرة القيم والمقاصد الشرعية الإسلامية، والتشريف الحضاري أمام بقية الأمم بتبديد الفكرة القائلة إن الإسلام لا يتلاءم مع الحداثة. وعلى رغم ذلك فإن هيئات ديمقراطية ونسائية كثيرة فاعلة ترى أن الإصلاح الجديد الذي أوردته مدونة الأسرة لم يكن في مستوى المطالب الحقيقية للحركة الحقوقية والنسائية والديمقراطية التي تسعى في المقام الأول إلى مطابقة التشريعات المغربية مع ما تنص عليه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
يبقى أن نؤكد أن مسودات القوانين الحالية البحرينية تحتوي على مثالب عدة ولا ترقى إلى مستوى العدالة التي تتمناها المرأة البحرينية، ويبقى الحل في إشراكها في الحوارات المقبلة والاستفادة من خبراتها نتيجة اطلاعها على القوانين الأكثر عدالة وتحقيقا لمقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء والمواثيق الإنسانية العالمية
إقرأ أيضا لـ "فريدة غلام إسماعيل"العدد 1293 - الثلثاء 21 مارس 2006م الموافق 20 صفر 1427هـ