دخلت الانتخابات اللبنانية في دائرة الحسابات الإسرائيلية منذ أن أخذت القوى المتنافسة على المقاعد النيابية تطرح مشروعاتها السياسية وتحديدا تلك المتصلة بقضايا المنطقة وتشكيلاتها الإقليمية.
هناك الكثير من الأسئلة بدأت تشق طريقها قبل أسبوع من موعد الاقتراع. والأسئلة تتركز على مجموعة احتمالات تدور حول سياسة الطرف الفائز ومدى قدرته على ضبط الوضع الأمني الداخلي وضمان الاستقرار على الحدود.
الحكومة الإسرائيلية أطلقت بهذا الشأن سلسلة تصريحات متعارضة تفاوتت بين التنبيه والتهديد. فهي من جهة حذرت من فوز قوى «8 آذار» بالغالبية بذريعة أن لبنان سيتحول إلى ساحة مواجهة أمامية إقليمية وهي من جهة أخرى أبدت عدم ارتياحها من فوز قوى «14 آذار» بذريعة أن لبنان سيؤمن ذاك الغطاء الدولي القادر على حمايته من تداعيات أي اصطدام عسكري. وبين الاتجاهين تبدو تل أبيب مترددة في حسم اختيارها الاستراتيجي باعتبار أن المسألة اللبنانية تعتمد على شبكة إقليمية من العلاقات تعطيها مظلة شرعية وتغطيها أمنيا وتعطل على حكومة أقصى التطرف حرية التحرك من دون عقبات دولية.
السؤال الأبرز في تصريحات المسئولين الإسرائيليين يتركز الآن على محاولة الإجابة عن موضوع يتصل بأمن الحدود وضمان استقرار المعابر الدولية. فمن هو الطرف الأفضل والقادر على تحقيق هذه الرغبة الإسرائيلية؟
الإجابة تنقسم على اتجاهين. هناك فريق إسرائيلي يرى أن نجاح قوى «8 آذار» يشكل خطرا باعتبار أن الحدود اللبنانية ستصبح مفتوحة لعبور المجموعات المسلحة المدعومة من المحور السوري- الإيراني. وهناك فريق يرى أن نجاح هذه القوى يعطي ذريعة للحكومة الإسرائيلية لفتح جبهة عسكرية ضد لبنان من دون احترام للضوابط الدولية التي كانت تقيد حرية استخدامها للقوة بالكامل ضد الدولة.
الاختلاف بين الاتجاهين الإسرائيليين ظهرت ملامحه مرارا في التصريحات التي قرأت احتمالات نتائج الانتخابات النيابية. فالفريق الذي حذر من فوز «8 آذار» ينطلق من قاعدة أمنية يربط الحدود في الجنوب اللبناني بقنوات إقليمية تصل إلى طهران ما يرفع من ثقل الأعباء الأمنية على تل أبيب. والفريق الذي ينبه ينطلق من قاعدة عسكرية لأن نجاح محور المقاومة يعطي «إسرائيل» حرية الإفراط في استخدام القوة بذريعة أن لبنان تحول إلى ساحة للإرهاب الدولي ولم تعد دولته موجودة.
إلا أن الاختلاف الإسرائيلي في قراءة الانتخابات اللبنانية لا ينحصر في الاتجاهين وإنما يتشعب إلى تحليلات أخرى تقوم على رؤيتين: الأولى ترى أن الدولة في بلاد الأرز تتمتع بمناعة دولية وحصانة عربية وغطاء أوروبي ما أعطاها قدرة دبلوماسية ساهمت في حماية المقاومة وضمان استقرارها واستمرارها وبالتالي فإن المصلحة الإسرائيلية تتطلب الآن إزالة هذه العقبة حتى تستطيع آلة الحرب أن تتحرك من دون ضوابط وموانع. والثانية ترى أن قوى «14 آذار» غير قادرة على ضمان أمن «إسرائيل» حتى لو فازت بالغالبية في الانتخابات النيابية وبالتالي ما الفائدة من المراهنة على حصان لا يتمتع بتلك القوة الميدانية القادرة على ضبط الساحة ومنع الفصائل المسلحة من التحرك على أرضه.
الرؤية الثانية مهمة جدا لأنها توضح معالم خريطة طريق تؤدي في النهاية إلى تفضيل «إسرائيل» فوز 8 على 14 آذار لمجموعة اعتبارات أمنية وهي تختزل بالنقاط الآتية:
أولا، فوز المقاومة على الدولة يسقط الازدواجية في المعايير القانونية ويفتح الباب على مواجهة حاسمة مكشوفة ويعطي فرصة لتدمير لبنان وتحطيم قواه وإمكاناته وبناه التحتية. وهذا الاحتمال التقويضي من الصعب تحقيقه في حال انتصرت جماعة «الدولة» في الانتخابات.
ثانيا، فوز خيار الدولة على المقاومة يحصن بلاد الأرز عسكريا بسبب تلك الشبكة الدبلوماسية الممتدة عربيا وآسيويا وأوروبيا وأميركيا ويحمي الساحة من جبهة مفتوحة تزعزع وجوده... وذلك من دون مقابل أمني تقدمه الدولة تضمن من خلاله الحدود الدولية وتمنع بمقتضاه حصول عمليات اختراق أو قصف أو إطلاق صواريخ.
ثالثا، ما الفائدة من حصول طرف على غالبية نيابية ولا يمتلك قوة القانون وتلك القدرات الميدانية التي تعطيه حق الاختيار بين قرار الحرب أو السلم أو قبول التسوية أو تثبيت الاستقرار وتأكيد الهدنة على غرار ما هو حاصل على جبهة الجولان السورية.
النقاط الثلاث تشير إلى وجود توجه إسرائيلي يفضل فوز «8 آذار» لأن ذلك يجرد المقاومة من غطاء الدولة والحماية الدولية ويعطي فرصة لحسم كل تلك الملابسات الحاصلة في جانب الجبهة اللبنانية. فالفوز المذكور يسهل على تل أبيب تحديد خياراتها النهائية باتجاه الحرب أو التسوية. وفي الحالين تبدو قوى «8 آذار» قادرة ميدانيا على الذهاب بعيدا باتجاه الخيارين بينما قوى «14 آذار» غير قادرة موضوعيا على حسم خياراتها الاستراتيجية.
ترجيح فوز «8 آذار» في الانتخابات اللبنانية يحتل أولوية في الحسابات الإسرائيلية وهو التوجه المفضل حتى لو لم تعلنه رسميا وسائل الإعلام. فاذا اتجهت الجبهة اللبنانية نحو الحرب فإن المواجهة ستكون مفتوحة على غرار الدمار الذي أصاب قطاع غزة في الحرب الأخيرة. وإذا اتجهت نحو التفاوض الدبلوماسي على غرار هضبة الجولان فإن ضمان أمن «إسرائيل» يصبح من الأوراق المطروحة على طاولة التسوية إلى فترة غير معلومة. وفي الحالين تكون تل أبيب، كما تتصور حكومتها، ضبطت حدودها الدولية ودفعت الساحة اللبنانية إلى فوضى دستورية وفراغ أمني ومخاوف أهلية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2458 - الجمعة 29 مايو 2009م الموافق 04 جمادى الآخرة 1430هـ