الأمل الذي يدغدغ نفوس المسلمين في أن تكون بلاد المسلمين بلادا واحدة كبيرة جدا، وانتظار ذلك اليوم ربما يكون حلما يراود نفوس الغيارى الذين يدركون الزمان ويعون تغيير الأحوال، انه يوم العزة والقوة ووحدة الحال حيث يشعر المسلم بعظمة المسلمين وتمكنهم في الأرض، ويتعزز إحساسه بذاته الإسلامية وهو يتنقل بين المدن الإسلامية، ويقطع المسافات الشاسعة من دون أن يتغير عليه نظام أو توقفه حدود أو تفتيش أو سؤال عن هوية وانتماء.
إلى أن نصل إلى ذلك اليوم «الحلم» وهو غير محال بإذن الله، فماذا ترانا فاعلون ونحن نعيش في أوطان محدودة بحدود جغرافية ومقننة بأنظمة مختلفة ومتباينة أحيانا، لها أعلامها وحكامها وجنسيتها، وما يستتبع ذلك من أنظمة وحدود وجمارك و«فيز» وإقامات؟
إلى أن يتحقق ذلك الرباط الديني واقعا وعملا، فكرة وتمثلا، مفهوما ومصداقا، فإننا في عالمنا الإسلامي نعيش ليس فقط الفواصل الجغرافية بل هناك فواصل أخرى ضمن الوطن الواحد والشعب الواحد. تلك الفواصل هي فواصل الأفكار والتصورات والمواقف والعقائد والأديان.
إن الضرورة تحتم علينا تفعيل بعض الأطر المجمدة التي نأينا بأنفسنا عن تفعيلها والتفاعل معها أعني إطار الوطن وروح المواطنة، ذلك أن الذين يشاركوننا الجغرافيا في عالمنا الإسلامي وهم مختلفون معنا في الدين يعدون بالملايين، ما يعني أننا أمام قدرة وقوة وإرادة لها أثرها في معادلات العالم الإسلامي ككل وفي أي وطن توجد فيه وتشكل جزءا مهما من نسيجه.
فهل يمكن أن نشكل من الوطن رابطا يجمع قلوب الناس الموجودين عليه والمتنعمين بخيره وعطاءه؟ أم مازلنا نقرأ هذا الرباط بطريقة مشوهة ونفهمه فهما حديا صداميا ضيقا؟
ففي مصر يمتد وجود المسيحيين زمنا طويلا، سواء كانوا أقباطا أم غير ذلك، وهم يتقاسمون مع بقية المواطنين المصريين هموم العمل، وجهود العطاء، ويجاورونهم في السكن ويتلاقون معهم في العمل، وهم نحو 10 في المئة من عدد السكان، إذ يتراوح عددهم ما بين ستة إلى سبعة ملايين إنسان من عدد سكان مصر الذين يشكلون النسبة الأكبر في عدد السكان 90 في المئة ويناهزون السبعين مليون نسمة.
وفي السودان توجد غالبية مسيحية تجتمع في جنوبه وتستقر على 28 في المئة من المساحة الكلية للسودان، أي نحو 700 ألف كيلومتر مربع من مساحة السودان الكلية البالغة 2,5 مليون كيلومتر مربع، ويقدر عدد المسيحيين بنحو 10 في المئة من مجموع الشعب السوداني الذي زحف إلى أربعين مليون نسمة العام 2005، كما جاء في نشرة «واشنطن» التابعة لوزارة الخارجية الأميركية.
وفي لبنان البلد الذي يقطنه من سكانه 3,5 ملايين نسمة وفي المهجر من أبنائه 15 مليون نسمة تتنوع الوجودات فيه من مسلمين ومسيحيين وموارنة ودروز، وكل طائفة من هذه الطوائف تشكل ثقلا لا يستهان به في ذلك البلد وتعتبر واحدة من معادلات التوازن في مجتمع التعدد والاختلاف.
وفي العراق الذي لايزال يئن تحت الاحتلال من جهة والإرهاب من جهة الأخرى هناك المسلمون والسومريون والآشوريون والأكراد والتركمان، وهناك مسيحيون ويزيديون وزرادشتيون وصابئة ويهود.
إننا حين نؤكد رباط الوطن كجامع بين مكون المجتمعات الأنفة الذكر وغيرها من المجتمعات والدول المحدودة بحدود جغرافية تعارفنا على تسميتها بالأوطان جمع «وطن» فإننا نؤكد ضرورة ليس من صالحنا أن تستمر غائبة مغيبة، لأنها في ظل الاختلاف القائم والتباين الواقع تجعلنا أمام حقوق وواجبات يفرضها علينا هذا الرباط فرضا قانونيا وأدبيا وأخلاقيا، فإذا أمكننا تحريك هذا الرباط ضمنا تكاتفا وتآلفا مدعوما بالقانون والأخلاق، وإذا كسبنا رضا الدين وموافقته وقبوله فإننا سنضيف جنبة دينية مهمة إلى جانب القانون والأخلاق.
برباط الوطن بيننا وبلغة المواطنة المشتركة بين كل الوجودات التي يحتويها الظرف الجغرافي سيمكننا أن نقف نحن ومن معنا سويا للدفاع عن أوطاننا والاستماتة دونها، وبرباط الوطن يمكن أن ندين المتهاون دون وطنه، وأن نشدد الحساب معه إذا تلكأ وتخلف.
كما أننا برباط الوطن والمواطنة أقدر على الحيلولة والمنع عن أي رباط أو انتماء آخر مناهض للوطن ومتباين معه من أنواع الولاءات السياسية الخارجية، أو الطائفية الداخلية التي تنخر جسد الأمة الإسلامية، وتحول دون قوتها وتقدمها.
وبرباط الوطن سيطالب الجميع بالإعمار والعطاء من أجل الوطن كله «مهما تباينوا معنا في الدين أو المعتقد».
إن غياب الرباط الوطني كشفنا وعرّانا في الكثير من النكبات والمصائب التي مازالت تصب علينا من كل حدب وصوب، فبغياب رباط الأوطان لم يعد أحد ملزما معنا حتى أخلاقيا في الدفاع عن وطننا ضد الأعداء والمتربصين، وإذا ما تنادى المسلمون في بقعة ما وطلبوا من إخوانهم المسلمين الحماية والدفاع عنها، فإن الأصوات المناهضة ستأتي من الداخل طالبة عدم التدخل في الشأن الداخلي.
إن المحنة اللبنانية الحالية، ووضع السودان قبل أن تضع الحرب أوزارها بين الجنوب والحكومة السودانية، ووضع العراق الدامي كلها تجارب تدفع للاعتبار والتأمل والإجابة عن سؤال مازال قائماً: ما العمل وماذا نحن صانعون مع وجودات تشاركنا الأرض والخير، وتعطي من نفسها وأنفس أبنائها الجهد والإخلاص - من أجل بلادنا جميعاً - ماذا نحن صانعون أن لم نرتبط معها برباط الوطن؟ والى من نكلهم في ولائهم وانتمائهم ومواقفهم؟
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1291 - الأحد 19 مارس 2006م الموافق 18 صفر 1427هـ