لقصيدة «أحرم الحجاج»، مكانةٌ كبيرةٌ في نفوس أهل البحرين، لتميّزها بالنَفَس الملحمي، إذ تغطي حركة الإمام الحسين (ع) منذ انطلاقته من المدينة حتى استشهاده في كربلاء. إلا أن هناك قصيدةً مؤثّرةً أخرى تتعلق بأجواء هذا اليوم، العشرين من صفر (الأربعين)، تبدأ باستنهاض الهمم لإحياء هذه الذكرى الدينية التاريخية:
قم جدّد الحزنَ في العشرين من صفرِ
ففيه رُدَّت رؤوسُ الآلِ للحفرِ
وكما هو واضحٌ أنها تتكلم عن إرجاع رؤوس آل البيت إلى قبورهم في كربلاء بعد رحلة السبي المريرة التي تعرّضت لها أسرة النبي محمد (ص)، في أعظم مفارقات التاريخ: أول أسرة تتعرض للسبي في الإسلام هي أسرة نبي الإسلام!
من حسن حظ المسلمين أن هذه الواقعة التاريخية حظيت بدرجة عالية من التوثيق لاهتمام المسلمين بتسجيل تفاصيلها الفاجعة، لئلا يأتي متفذلكٌ في آخر الزمان لينفي جرائم الحكم الأموي، وليدافع عن الطغاة وقتلة أبناء الأنبياء، بتبريراتٍ سخيفة تصطدم بالقرآن الكريم والسنة الشريفة والعقل والقياس.
من هذه التفاصيل التي دوّنها المؤرخون، ما حدث في مثل هذا اليوم، الذي شهد عودة من بقي حيّاً من سبايا البيت النبوي الشريف، إلى العراق، بعد رحلةٍ طويلةٍ وعسيرةٍ، عرف فيها النساء والأطفال التنقل عبر الصحارى والقفار، وبعد العز في المدينة نزلوا في خرائب الشام. قبل وصول الركب النبوي سبقهم إليها ركبٌ صغيرٌ، مكوّن من رجلين فقط: الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري، الذي شهد بدراً وثماني عشرة غزوة مع النبي، وكان آخر الصحابة وفاة؛ وخادمه عطية العوفي، الذي اختار له علي (ع) هذا الاسم، لما جاء أبوه سعد بن جنادة أيام خلافة الإمام بالكوفة فقال: يا أمير المؤمنين، وُلِد لي غلامٌ فسَمِّهِ، فقال: «هذا عطية الله». وكان يقوم بخدمة جابر بعد أن كفّ بصره.
يذكر المؤرخون أن الرجلين لما وردا كربلاء، نزل جابر الفرات واغتسل وتطيّب، ثم ائتزر بإزار وارتدى آخر، وسار خطواتٍ قصيرةً بمساعدة خادمه نحو قبر الحسين (ع)، حتى جثا عنده، فلما وضع يده على القبر أغمي عليه، ولما أفاق صاح ثلاثاً: «يا حسين». ولما لم يصله الجواب من تحت الثري صاح متفجّعاً: «حبيبٌ لا يجيب حبيبَه». لا أدري ما هي الصور التي دارت بمخيلة جابر في تلك اللحظات، هل تذكّر الحسين يوم كان طفلاً يقبّله الرسول في فمه، أم يوم كان يعتلي ظهر جدّه أثناء الصلاة فيطيلها حتى ينزل، أم تخيّل الجسد المقطع بحوافر الخيل؟ ثم تمالك نفسه ونادى: «السلام عليكم يا آل الله...»، وانطلقت العبارات تتدفق من القلب، لتصبح مرثيةً تتلوها الملايين القادمة عبر القرون، في زيارتها للشهيد السبط في «زيارة الأربعين». ولما انتهى من مخاطبة حبيبه، استدار نحو قبور بقية الشهداء ليحييهم بعبارات الثناء والتقدير والتعظيم. هل كان يدرك جابر حينها أن اسمه سيسجل كأول زائر لقبر الشهيد السبط في التاريخ، وانه سنّ في ذلك اليوم أول آدابِ زيارةٍ لمقامات الشهداء... وأن ملايين المسلمين ستقتديه عبر القرون وفاءً لذكرى سبط صاحبه العظيم (ص)
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1291 - الأحد 19 مارس 2006م الموافق 18 صفر 1427هـ