حدثان مهمان ألقيا بظلالهما على الملف العراقي المتأزم، الأول اعتراف وزير الدفاع الأميركي لوكالة الأنباء الفرنسية بعدم امتلاك واشنطن أدلة على ضلوع طهران في عمليات تسلل إلى العراق أو إرسال سيارات مفخخة إليه، وتأييد ذلك القول من قبل الجنرال بيتر بايس رئيس هيئة الأركان الأميركية، والثاني هو إعلان الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني قبول إيران لدعوة رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق السيدعبدالعزيز الحكيم إجراء مباحثات مع واشنطن «لحل مشكلات وقضايا العراق وصولا إلى تأسيس حكومة عراقية مستقلة خدمة للشعب العراقي» واصفا الحكيم أنه «يعد من الشخصيات الإسلامية البارزة في العراق واستشهد معظم أفراد أسرته في طريق استقلال العراق» كاشفا أن الفريق الإيراني المفاوض سيشكل قريباً، وهو إعلان جاء بعد فتور واضح أبدته طهران تجاه دعوة السفير الأميركي في بغداد زلماي خليل زاد في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لإجراء مفاوضات بين العاصمتين (طهران وواشنطن) لمناقشة الوضع المتردي في العراق، وإذا ما أفضت تلك الكوة إلى مباحثات ثنائية مباشرة فستكون هي الأولى من نوعها منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979، وعليه فإن السؤال الذي يثار حاليا من قبل المراقبين هو هل أن تلك المباحثات ستعني نفض الغبار عن باقي الملفات العالقة الأخرى أم لا؟ وهل ستصر واشنطن على نعت إيران بأنها أحد أضلاع محور الشر كما قال الرئيس بوش في العام 2002 وما استتبع ذلك من ممارسة ضغوط اقتصادية وسياسية، وما بشرت به أيضا وثيقة الأمن القومي الأميركية أخيراً، وخصوصاً أن الملف النووي الإيراني يسير من سيئ إلى أسوأ في ظل دفوع أميركية وأوروبية مطردة لتأزيمه؟ يبدو أن الحوار سيكون محدودا جدا وكما أعلن عنه سلفا لتسوية مصالح بينية معينة من دون أن تغير واشنطن موقفها من الملفات الأخرى، يدعم ذلك القول ما أشارت إليه وثيقة الأمن القومي الأميركي الصادرة في يوم الخميس 16 مارس/ آذار الجاري والتي خصصت مساحة وافرة لمهاجمة إيران ووصفها الخطر الأكبر الذي يهدد مصالح الولايات المتحدة الأميركية في العالم والشرق الأوسط تحديداً، والأكثر من ذلك هو إنشاء قسم للشئون الإيرانية في الخارجية الأميركية وفتح فروع له في (إحدى العواصم الخليجية) وفرانكفورت وطوكيو ولندن وباريس وكوبنهاكن لتنسيق مواجهة النفوذ والسياسات الإيرانية في الملفات الساخنة، إشارة أخرى أيضا تتعلق بالملف النووي الإيراني الذي يبدو أن واشنطن قد فرغت من معركة توريطه في مطبات دولية، وإعادة توزيع واصطفاف التحالفات الدولية (الترويكا الأوروبية) والإقليمية (الهند ومصر) في محاولة منها لإضعافه وحشره في زاوية ما تريد، وبالتالي فإن ربط مسألة المحادثات بين واشنطن وطهران بشأن العراق مع مسألة الملف النووي الإيراني هو ربط غير واقعي مع إصرار واشنطن على الفصل بين الموضوعين منذ دعوتها الأولى في نوفمبر الماضي، وبالتالي فمسألة أن تتخلى الولايات المتحدة عن الإنجاز الذي حققته في معركتها ضد إيران فيما يتعلق بالملف النووي أمر غير وارد، ونحن الذين رأينا عدم رضا الأميركيين عن سير تعاطي أوروبا القديمة ودول عدم الانحياز مع القضية النووية الإيرانية منذ اتفاق سعد آباد في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2003 بين الإيرانيين والترويكا الأوروبية ولغاية تقديم المقترحات الأوروبية في أغسطس/آب الماضي. الإيرانيون يريدون بتلك المبادرة تحقيق عدة مكاسب:
أولاً: تخفيف الضغوط التي يواجهها الائتلاف العراقي (الحليف المهم لإيران) من قبل الولايات المتحدة الأميركية ومعها أطراف سياسية عراقية كجبهة التوافق والجبهة العراقية وتكتل علاوي والتحالف الكردستاني، ومحاولة تكريس حضور الائتلاف سياسياً والمحافظة ما أمكن على وحدته وتماسكه، عبر حكومة تسيطر على الوزارات السيادية والدينية مشكلة بالأساس من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحزب الدعوة الإسلامية والتيار الصدري الذي وإن بدا معارضا لأساس المبادرة، وهو ما يعني أن الإيرانيين متمسكون بعدم التفريط بحلفائهم الذين عملوا معهم منذ مطلع الثمانينات ولغاية سقوط بغداد وما تلا ذلك من تشكيلات سياسية لبناء الدولة كمجلس الحكم، وذلك لضمان بقاء التحالف الاستراتيجي بينها وبينهم، وما سيشكله ذلك التحالف من توفير أفضل الضمانات والخيارات لأن تلعب إيران دورا محوريا في الملف العراقي مستقبلا.
ثانياً: أن تتجاهل إيران دعوة السفير الأميركي في العراق خليل زاد إلى الحوار قبل ستة أشهر ثم تقبله من السيد عبدالعزيز الحكيم إنما هو رسالة يرغب الإيرانيون في إيصالها لواشنطن بأن طهران موجودة فعلاً في العراق عبر أقوى كتلة سياسية، وهي تقبل من العراقيين وحدهم فقط وليس من الآخرين مناقشة الداخل العراقي، وهو ما يعني تكريس لقيام حكومة عراقية وطنية مستقلة تمهيدا لخروج القوات الأميركية من العراق كما كانت تنادي منذ إبريل/ نيسان 2003، وخصوصا أن السيد الحكيم يرأس قائمة الائتلاف العراقي الموحد الحاصلة على نسبة أقل بقليل من 50 في المئة من الأصوات، بمعنى أنها تمثل شريحة واسعة من قطاعات الشعب العراقي.
ثالثاً: ترغب إيران عبر تلك المبادرة الدخول كطرف فاعل ومباشر لتسوية قضايا مختلفة تمس الأمن القومي الإيراني، أهمها ملف منظمة مجاهدي خلق، التي بات أمرها معلقاً من دون حسم، على رغم تصنيف واشنطن لها بأنها حركة إرهابية، في حين أنها مازالت تتعاون معها في مجال تطبيق برنامج الديمقراطية داخل إيران وإسقاط نظام «الملالي» الذي أقره الكونغرس الأميركي بموازنة تزيد عن الخمسين مليون دولار، وبالتالي فإن طهران تنظر إلى ذلك الأمر بجدية بالغة، بعد أن تسببت تلك المنظمة في تأزيم قضية إيران النووية أمام الأسرة الدولية بكشفها معامل نطنز التي تعمل بالماء الثقيل وما تلا ذلك من تطورات دراماتيكية على ذلك الصعيد.
الولايات المتحدة الأميركية تدرك جيدا أن النفوذ الإيراني في العراق لم يعد محصورا في المناطق الشيعية في الجنوب، وإنما هو موجود بفضل مفاعيل تاريخية وجغرافية وبفعل منطق الأشياء ومساقاتها، ولم يعد لأي قادم من الغرب أن يغير من ذلك في شيء، حتى ولو ملأ الأرض خيلا ورجالا، وهو الأمر الذي حدث قبلاً في أفغانستان عبر وصول الإيرانيين إلى أهم وزارات الدولة كالخارجية والدفاع والأمن والتعليم.
إيران التي راهنت على المعارضة العراقية منذ بداية الثمانينات وواكبت حركتها بين عواصم إقليمية ودولية بمتابعة حثيثة ودعم سياسي ودبلوماسي ومالي هي الآن تقطف ثمرة ذلك الدعم وثمرة الجنون الأميركي أيضا الذي جعلها تنغمس في وحل حربين مدمرتين ضد نظامي صدام حسين والملا عمر أهم غرماء طهران في المنطقة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1290 - السبت 18 مارس 2006م الموافق 17 صفر 1427هـ