الوثيقة التي صدرت في 49 صفحة قبل يومين عن الإدارة الأميركية تكشف الكثير من الجوانب الاستراتيجية في تفكير واشنطن ورؤيتها لما تسميه المخاطر التي تهدد «الأمن القومي».
معظم العناوين العامة في الوثيقة ليست جديدة. فالإدارة أعادت تأكيد ما ورد في وثيقة العام 2002 وهي التي اسقطت فيها سياسة «الحرب الباردة» واستبدلتها بنظرية جديدة تقوم على مكافحة «الإرهاب الدولي».
وثيقة 2002 بررت الأسباب التي دفعت الإدارة إلى إعلان الحرب على العراق من طرف واحد ومن دون العودة إلى مجلس الأمن. ووثيقة 2006 جددت العناوين بما فيها تلك التي تعطي شرعية لما تسميه حق الولايات المتحدة في أن تتحرك لوحدها «إذا لزم الأمر» لمواجهة عدو تعتقد أنه يشكل خطراً على مصالحها وأمنها.
التفاوض الدبلوماسي لم تسقطه الوثيقة الجديدة من الاحتمالات، ولكن الإدارة ربطت الأمر بمجموعة بنود رتبت «الاعداء» وفق سلم أولويات. الخطر الأول إيران، فهي «التحدي الأكبر» أمام الولايات المتحدة اليوم. والثاني كوريا الشمالية فهي تشكل «تحدياً خطراً» في موضوع برنامجها النووي. وبعد ذلك وزعت الوثيقة المخاطر على المجموعات الإرهابية بقصد ربطها بتلك المزاعم التي تهدد أمن الولايات المتحدة.
مثلاً ربطت الوضع العراقي بإيران من قريب وسورية من بعيد، ثم ألحقت سورية وحماس بموضوع إيران (الخطر الأول) مشيرة إلى طبيعة الأنظمة.
الوثيقة لم تحصر اهتمامها بإيران وكوريا الشمالية وتداعيات الاحتلال الأميركي للعراق والظروف المستجدة التي طرأت على الوضع الفلسطيني بعد فوز «حماس» في الانتخابات، بل إنها وسعت من دائرة «الاعداء» لتضيف تلك الملاحظات الروتينية على السياستين الروسية والصينية فيما يتعلق بالدائرتين: جنوب شرق آسيا ودول آسيا الوسطى ومحيطها وامتداداتها.
بحسب الترتيب الجديد للمهمات الاستراتيجية المتعلقة بالأمن القومي تبدو طهران هي الخطر الأول «اليوم» بعد أن كان سابقاً يتمثل في «الإرهاب» والعراق وكوريا الشمالية وإيران. الآن لايزال «الإرهاب» و«أنظمة الاستبداد» في طليعة الاعداء إلا أن المجموعتين ألحقتا من قريب أو بعيد بالخطر الأول.
هذا الترتيب الجديد يكشف عن وجود أولويات في الاستراتيجية الأمنية يتوقع أن تسير في ضوء خطوطها واشنطن في الفترة المقبلة. وهذه الخطوط جرى إعادة تأكيد اعتمادها وهي «حق التحرك منفردة» إذا لزم الأمر واستخدام تكتيك الضربة الوقائية لتبرير أي عمل حربي مقبل.
حق التصرف «إذا لزم الأمر» مسألة خطيرة لأنها تشير إلى وجود استعداد لدى إدارة جورج بوش بتكرار تحدي الرغبات الدولية المضادة على غرار ما حصل في العام 2003 حين انفردت الولايات المتحدة مدعومة من بريطانيا في شن الحرب على العراق.
يضاف إلى «حق التصرف» مسألة أخطر وهي اعتماد ذريعة الخطر (قد يكون وهمياً أو حقيقياً) لتبرير شن حرب «وقائية» لمنعه من الانتشار.
«الحرب الوقائية» تبنى شرحها الكثير من الاستراتيجيين الأميركيين آخرهم مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي ستيفن هادلي تعليقاً على ما ورد في الوثيقة الجديدة. فالمستشار شرح الفكرة بالتأكيد على أن المواجهة ليست بالضرورة دائماً عسكرية، ولكنها تعطي الحق لواشنطن بالتحرك لحماية نفسها. والحماية ليست مشروطة بوجود تهديد مباشر (الضربة الاستباقية)، بل هي تخضع لتقييمات أخرى «حتى لو لم يبدُ الخطر داهماً ووشيكاً».
تعليق هادلي أوضح الفارق بين «الاستباقية»، و«الوقائية». فالاستباقية تعني أن هناك قوة جاهزة استكملت عدتها وعتادها وباتت على أهبة الاستعداد للمباغتة وشن الحرب فتقوم الولايات المتحدة بتسديد ضربة «استباقية» لمنع الخصم من تحقيق المفاجأة الاستراتيجية (الضربة الأولى).
«الوقائية» أسوأ وهي تعني العكس، أي أن هناك قوة غير جاهزة ولم تستكمل عدتها وعتادها وهي غير مهيئة لشن الحرب، ولكنها تشكل برأي واشنطن خطراً على الأمن القومي... وهذا يكفي لتبرير الحرب وقيام الولايات المتحدة بتسديد ضربة «وقائية». هذا التوضيح السياسي ليس جديداً، إذ سبق وأوضحت واشنطن اختلاف المعنى العسكري بين «الاستباقية» و«الوقائية». الجديد هو أن هادلي استخدم مفردة «الوقائية» في الاتجاه نفسه أي أن القيادة باتت لا تفرق بين «الاستباقية» و«الوقائية»... فالضربة «الاستباقية» تستخدم أيضاً لضرورات «وقائية».
التلميحات إذاً ليست بسيطة فهي تشير إلى نوع من التعديل في تكتيكات التعامل مع من تصفهم واشنطن بالاعداء أو «محور الشر» أو الخطر الأول على الأمن القومي الأميركي. فالخطر ليس بالضرورة أن يكون الطرف مستعداً للمواجهة وإنما أيضاً ذاك الذي يكون في وضع غير مستعد. فالعملة واحدة أي أن «الاستباقية» هي الوجه الآخر لـ «الوقائية».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1290 - السبت 18 مارس 2006م الموافق 17 صفر 1427هـ