استكمالاً لموضوع الأمس عن النتائج الكارثية لمحاصرة الجمعيات والمؤسسات الخيرية والإنسانية الإسلامية، في إطار الحرب الأميركية على الإرهاب، نستكمل الحديث عن المنظمات الغربية التي لم تنج من نتائج الحرب على الإرهاب، التي كان من نتائجها مكافأة الدين الاسلامي الذي قدم للعالم مفهوم العمل الخيري، بالتهامه بالارهاب والقتل.
هناك واقعتان أساسيتان أظهرتا الحجم الكارثي لهذه السياسة المتطرفة والحاقدة تجاه العمل الإنساني الإسلامي: الأولى السياسة الجديدة لمنظمات البلدان الشمالية، والثانية زلزال باكستان.
السياسات الجديدة لمنظمات الشمال
لم تنج المنظمات الغربية من نتائج الحرب على الإرهاب، فلم يمر عام على الحملة على المنظمات الإسلامية حتى تكون رأي عام يقول، بباطل أو بحق، أن منظمات الشمال لم تتضامن مع الجمعيات الإسلامية على العكس من ذلك وجدت في الهجوم عليها فرصة للانتشار والتوسع. الأمر الذي خلق شعوراً بالشك والريبة من العمل الخيري الغربي المصادر. كذلك، وبعد أن أدخلت الإدارة الأميركية العمل الخيري الإسلامي في نطاق الحرب على الإرهاب بدأ الخطاب الإسلامي الراديكالي يعتبر المنظمات الإنسانية الغربية مروجاً للهيمنة الغربية ونمط حياتها ووسائل انتشارها. وقد لاقى هذا الخطاب، في غياب الوقفة الجريئة والمبدئية لمعظم المنظمات الغربية من الحرب على العمل الإنساني الخيري تعاطفاً شعبياً في الكثير من المناطق. فاضطرت منظمة أطباء بلا حدود، للانسحاب من العراق في ربيع 2003، وانسحبت من أفغانستان بعدها في صيف 2004 إثر اغتيال خمسة من أعضائها. فإذا أضفنا أزمة المنظمة الدولية الحاملة لجائزة نوبل في فلسطين العام 2001، نجد أن أهم المنظمات الأوروبية انسحبت من أماكن الصراع الأساسية فيما يعرف في خطاب الإدارة الأميركية بالشرق الأوسط الكبير. وقد نظمت مؤسسة «أطباء بلا حدود» في 11 يناير/ كانون الثاني 2006 ندوة في باريس عن العمل الإنساني تحت الاحتلال، واتفق معظم المتدخلين على ضرورة إعادة النظر في أسلوب العمل ومفهوم الحياد والقدرة على الوجود دون أن يكون هذا الوجود نوعاً من التواطؤ مع المحتل. وقد جاء في مداخلة كسافييه كرومبيه (الباحث في أطباء بلا حدود) أن من الضروري إعادة طرح ثلاثة أسئلة:
الأول: هو الأسس المقنعة للتدخل والوجود في منطقة ما سواء من وجهة نظر المشروعية أو الفعالية والقدرة على التحرك الميداني.
الثاني: المعنى الذي يأخذه العمل الإنساني من مسلكية القوى الموجودة ومختلف أشكال التفكير السياسي السائدة، مع ما يحمل الجواب من احتمال التعرض للخطر عند الفريق العامل والمحتاجين إليه بآن معاً.
الثالث: خصوصية الإشكالات التي تطرح علينا اليوم، والتي تتطلب تأملات عميقة في مفهوم الاحتلال.
بانتظار ذلك، تحولت مناطق الاحتلال الأميركي والإسرائيلي إلى أراض غير محبذة من معظم المنظمات الشمالية، وبذلك يدفع السكان في ظل مناطق «الحرب على الإرهاب» ثمناً مضاعفاً بضرب المنظمات الخيرية الإسلامية وانكفاء المنظمات الشمالية.
من جهة ثالثة، وعلى رغم أن الكثير من المنظمات الخيرية المسيحية قد واجهت سياسة قمعية للإدارات الأميركية المتتابعة في أميركا اللاتينية بسبب تعاطفها مع الأوساط الشعبية والفقيرة وكشفها ممارسات الأجهزة الأميركية، إلا أن الوضع مختلف في العالم الإسلامي. فهي في أميركا اللاتينية تسبح في وسط ديني وثقافي متفهم ومتفاعل وتمارس دورها الديني الإرشادي والخيري سواء بسواء من دون أي حرج، في حين أنها في البلدان الإسلامية تواجه مشكلة رفض التبشير من حيث المبدأ، وربط النشاط الخيري في ذهن الآخر بمحاولة إبعاده عن دينه وحضارته. الأمر الذي يتطلب إعادة رسم سياساتها ومد الجسور للمجتمعين الخيري والثقافي الإسلاميين للتمكن من التفاعل والتعاون معهما لا الاستفادة من الحرب عليهما لتحقيق مكاسب آنية.
الكارثة الباكستانية
لقد جاءت الكارثة الباكستانية المتجسدة في أقوى زلزال تعرفه البلاد اودى بحياة أكثر من 87 ألف شخص، لتكثف النتائج الكارثية للوضع الجديد المترتب على خيار الجنرال مشرف الرضوخ لسياسة الحرب العشوائية على الإرهاب التي تتبعها الإدارة الأميركية، فيما ضرب مقومات الدفاع الذاتي الإغاثي في المجتمع الباكستاني أولاً بالتشديد والتضييق على الجمعيات الإغاثية الباكستانية، وثانياً من إغلاق ومصادرة الكثير من مكاتب الجمعيات الإسلامية الدولية التي كانت تشكل العصب الأهم في العمل الإغاثي الدولي في البلاد.
وفي لحظة المأساة، وقف المجتمع الباكستاني يطرح الأسئلة:
أين هي الجمعيات الدولية الأخرى التي تشجع الحكومة تواجدها؟
أين هي الجمعيات التي تتلقى مساعدات كبيرة من السفارة الأميركية وغيرها وليس لها أي تواصل مع المجتمع والناس والمشكلات الحقيقية التي تعاني منها باكستان؟ كيف تم تقييد وتحجيم وضرب البنى التحتية والقدرات المالية لآلاف الجمعيات الخيرية التي كانت تنتشر في القرى والمناطق النائية بتهمة مساعدة التطرف الإسلامي والإرهاب؟
ألم ترتكب الحكومة الباكستانية جريمة كبيرة بحق الفقراء والمعدمين عندما أغلقت 16 منظمة إغاثية إسلامية دولية معروفة بنشاطاتها الواسعة ومعرفتها الجيدة بالناس وتعاونها مع المعنيين مباشرة؟
لقد أوضحت المأساة الباكستانية نتائج سياسة استئصال الجمعيات الخيرية الإسلامية وملاحقتها وتقييد حركتها، مظهرة وبوضوح يختلط فيه الموت بالمرض والجوع، أن الاستسلام الأعمى لإدارة أميركية متطرفة يحمل نتائج كارثية على المجتمع، من الخلية الصغيرة إلى القرية وأحياء الصفيح. وأن ما يسمى ضمانات الأمن الأميركي لا تعني فقط عشرات أو مئات آلاف الضحايا، بل الملايين من أبناء الدول الفقيرة غير المجهزة بوسائل الدفاع عن نفسها، والتي وجدت في المنظمات غير الحكومية عوناً كبيراً لتخفيف أوجاع الناس والتقليل من نوائب نظام عالمي جائر
إقرأ أيضا لـ "هيثم مناع"العدد 1288 - الخميس 16 مارس 2006م الموافق 15 صفر 1427هـ