العدد 1288 - الخميس 16 مارس 2006م الموافق 15 صفر 1427هـ

العنف يولد جمهورية فرنسية ويؤسس لمرحلة الاستبداد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أحدثت ثورة الاستقلال الأميركية ردود فعل كبرى في أوروبا. فالقارة كانت تنتظر ولادة قيصرية وجاءت المفاجأة من «العالم الجديد» لتعيد صوغ التوجهات ووضعها في سياق تاريخي مختلف. فبعد الثورة الأميركية ونجاح قادتها في التوافق على وضع دستور جديد ستصبح أبواب أوروبا مفتوحة لتقليد ذاك الحدث والاحتذاء به كنموذج لبناء دولة حديثة.

تقليد أميركا لم يكن السبب الوحيد الذي دفع نخب فرنسا إلى أخذ المبادرة والإسراع في نقل الدولة من الملكية إلى عصر الجمهورية. فهناك الكثير من الأسباب التي اجتمعت وولدت الحاجة إلى التغيير. أولها المال. فالدولة وقعت في أزمة ديون أغرقتها في مشكلات اقتصادية كبيرة. ففرنسا آنذاك أرهقت خزينتها لتمويل حرب السنوات السبع بين 1756 (1169هـ) و1763 (1177هـ). وما كادت الحرب تنتهي حتى تورطت في تمويل الثورة الأميركية (1775 - 1783) بهدف إضعاف بريطانيا وكسر هيمنتها البحرية على التجارة الدولية.

ثاني الأسباب كان التركيب الاجتماعي (الطبقي) للبرلمان الذي أسهم في تعطيل الكثير من القرارات وعرقل تحقيق إنجازات كانت فرنسا تطمح إليها.

ثالث الأسباب صعود موجة ثورية تطالب بتعديل الدستور وتطويره تأثراً بتلك الدعوات الرومانسية التي أطلقها فولتير ومونتسكيو وروسو وغيرهم من فلاسفة ومفكرين.

كل هذه الأسباب (المالية والاجتماعية والفكرية) اجتمعت في وقت واحد وتحركت مصادفة بعد إقرار الدستور الأميركي، لتطلق انتفاضة سياسية دموية سيكون لها أثرها الكبير في التاريخ الأوروبي وستترك أيضاً بصماتها الايديولوجية على شريحة واسعة من النخب العربية والمسلمة.

لم تكن الثورة الفرنسية ردة فعل على الثورة الأميركية ولا امتداداً لها. فهي لن تشبهها في مقدماتها ونتائجها على رغم محاولة بعض النخب تقليد ما حصل في الولايات المتحدة. فالثورة في فرنسا كانت ستحصل حتى لو لم يقع ذاك الحدث في أميركا. ولكن ثورة الاستقلال سرّعت من خطوات الثورة الجمهورية وشجعت قيادتها على الاحتذاء بذاك النموذج الجديد دليلاً للعمل السياسي.

اختلاف مقدمات الثورة الفرنسية له أسبابه الكثيرة، منها أن الدولة في أميركا هي التي قادت ثورة الاستقلال، بينما المجتمع في فرنسا هو من اندفع نحو إعلان الجمهورية. وفي أميركا لعبت الدولة (رجال الجيش والكونغرس) الدور الرئيسي في إعادة صوغ دستورها مستفيدة من فكر فلاسفة بريطانيا الذي اتسم بالواقعية والبراغماتية والنفعية، بينما في فرنسا لعبت شريحة من المثقفين دور التأسيس في صوغ الدستور وبيان حقوق الإنسان ضمن أجواء رومانسية ودعوات إلى الحرية والتمرد وردت في كتابات «فلاسفة الأنوار».

هذا الاختلاف بين النموذجين الثوريين (الأميركي والفرنسي) يعود أيضاً في مقدماته إلى اختلاف تكوين المجتمع الأميركي الجديد (مستوطنات، ومستعمرات) عن المجتمع الفرنسي التقليدي. فاختلاف التكوين التاريخي أعطى فرصة للدولة في أميركا لإعادة تشكيل صورتها من الصفر وبحسب مقاييس وضعها الكونغرس وصاغها في دستور بسيط في مواده ينسجم كثيراً مع تقاليد العقلانية - الدستورية البريطانية (هيوم، هوبس، لوك). بينما هذه الشروط الاجتماعية التكوينية لم تكن متوافرة في دولة قديمة كفرنسا. فإعادة تركيب المجتمع لتناسب تصورات جاهزة تعني ارتكاب مجازر بحق فئات اجتماعية وشرائح واسعة من المثقفين. وبسبب اختلاف المقدمات التاريخية/ الاجتماعية اختلفت النتائج بين الثورتين. ففي أميركا تطورت الدولة وقادت المجتمع نحو التوسع الجغرافي في مناطق الهنود الحمر وصولاً إلى الضفة الغربية من الولايات المتحدة. بينما في فرنسا انتكست الثورة وانهارت الدولة بعد أن تشكلت وفق تصورات غير ثابتة بدأت بالحرية والمساواة والإخاء وانتهت بالفوضى والاستبداد وأخيراً نجاح جنرال في السيطرة على مقاليد الحكم وقيادة فرنسا نحو حروب وحملات عسكرية في أوروبا والشرق (مصر وفلسطين).

اختلاف المصادر الفكرية (الفلسفية الدستورية) والتكوين الاجتماعي بين الثورتين أسهما في صوغ نتائج متباينة إذ لعب الاختلاف دوره في توليد سياسات غير متطابقة. قادة الاستقلال في أميركا مثلاً تأثروا بأفكار مونتسكيو وفولتير وروسو، ولكن هذه الدعوات جاءت تحت مظلة فلاسفة بريطانيا. فالفكر البريطاني تشكل في إطار منظومة عامة تأسست قواعدها البراغماتية من تجربة تعتبر الأقدم في أوروبا. فالفكر السياسي البريطاني استفاد كثيراً من تلك التجربة الثورية التي قادها كرومويل في القرن السابع عشر وكادت أن تنتهي إلى نظام استبدادي فردي يعتمد توريث السلطة السياسية. فهذه التجربة كانت سبّاقة وشكلت نزعتها التجريبية صيغة واقعية/ عقلانية دمجت بين الحديث والقديم ونجحت في صوغ دولة ملكية/ دستورية زاوجت بين التقاليد وحاجات العمران الحديث. فهذا النموذج البريطاني (السياسي الفلسفي) كان أقوى في تأثيره البراغماتي على وعي قادة الاستقلال في أميركا، بينما كانت الأفكار الايديولوجية التي أنتجها فلاسفة الانوار في فرنسا هي الأقوى في تأثيرها المباشر على وعي قادة الثورة الجمهورية.

بدأت الثورة الفرنسية في مايو/ أيار 1789 (1203هـ) حين دعا الملك لويس السادس عشر مجلس الأمة إلى الاجتماع لمناقشة قضية جمع الضرائب. فالمجلس آنذاك كان يتألف من ثلاث طبقات، وكان القانون ينص على أن كل طبقة تصوّت بشكل منفرد عن الأخرى. رفضت الطبقة الثالثة (الأوسع في عدد المقاعد) الفكرة وطالبت بأن يكون التصويت لكل الطبقات الثلاث، باعتبار أن البرلمان يمثل الأمة. رفض الملك الاستجابة لهذه الرغبة فطالبت الطبقة الثالثة بتعديل الدستور ومساواة الناس أمام القانون.

وهكذا بدأت الثورة. الطبقة المستفيدة من القانون القديم تمسكت به والطبقة المتضررة رفضته متأثرة بتلك الأفكار الفلسفية/ الرومانسية التي صاغها فولتير ومونتسكيو وروسو. فهؤلاء الثلاثة كتبوا كثيراً عن التجربة البريطانية ودعوا مراراً إلى تقليدها وخصوصاً في مسألة المزاوجة بين الملكية والدستور.

إلا أن الفكر السياسي البريطاني تميّز عن تفكير هؤلاء الثلاثة بنزعته النفعية/ البراغماتية التي تعتمد ضوابط عقلانية صارمة في قراءة الواقع وتوازناته. هذا النوع من التفكير السياسي فات فرنسا في تلك اللحظات التاريخية فاندفعت الجماهير في 14 يوليو/ تموز واجتاحت سجن الباستيل وحصلت مواجهات دموية في باريس والريف. وقام الفلاحون بانتفاضات ضد النبلاء وعمّت الفوضى البلاد، فاضطر الملك إلى التراجع ونجح البرلمان (الجمعية الوطنية) في الانعقاد في أغسطس/ آب وأصدر سلسلة مراسيم (مراسيم 4 أغسطس) وبياناً عُرف لاحقاً بـ «إعلان حقوق الإنسان والمواطن».

شكّل هذا الانقلاب السياسي الدموي بداية لسلسلة انقلابات اجتماعية دموية. فالمراسيم ألغت الضرائب التي كان الفلاحون يدفعونها لأصحاب الأرض. وألغت أيضاً امتيازات كانت ممنوحة لرجال الكنيسة (الكاثوليكية). وأعطت الحق للجمعية (البرلمان) بالاستيلاء على الأراضي ومصادرتها وبيعها لتسديد ديون الدولة.

استمرت الثورة التشريعية (الدستورية الاجتماعية) إلى العام 1791 (1205هـ) ونجحت خلال تلك الفترة القصيرة في وضع شروط جديدة لضبط العلاقة بين الدولة وفئات المجتمع، وصاغت مجموعة قوانين لإصلاح النظام الضريبي وانتخاب الهيئات وإعطاء الحقوق الأساسية لكل المواطنين، وعززت فكرة التسامح الديني لتشمل البروتستانت واليهود. وفي ضوء هذه القرارات استقالت الجمعية الوطنية معتبرة أنها أنجزت مهماتها ودعت الناس إلى اختيار مجلس تشريعي منتخب وفق أصول دستورية جديدة.

أدى انتخاب جمعية تشريعية جديدة إلى إنتاج كتلة برلمانية متطرقة وعفوية وقليلة الدراية والخبرة وتحمل معها مجموعة أفكار رومانسية. وظهر الأمر بعد افتتاح الجمعية الجديدة أعمالها في أكتوبر/ تشرين الأول 1791، إذ عصفت بالدولة مشكلات هبّت عليها من كل الجهات. الملك وطبقة النبلاء رفضوا هذه التعديلات. الكنيسة ورجالها والملاك رفضوا الاستجابة لتلك التغييرات الدستورية. النمسا وبروسيا أعلنتا الحرب على فرنسا دعماً للسلطة القديمة، وغزت القوات النمسوية - البروسية البلاد فانتفضت باريس واتهمت رجال المرحلة السابقة بالخيانة، فأقدموا في سبتمبر/ أيلول 1792 (1206هـ) على إعدام أكثر من ألف شخص بذريعة التآمر والتعامل مع الأجنبي.

هزت الإعدامات أوروبا وحقنت فرنسا بقيادة تيار الجمهورية بالمزيد من التطرف والكره للأجنبي والمتعاملين معه. وبسبب سياسة التجييش والتحريض حشدت «الجمهورية» أنصارها لمواجهة الغزو الأجنبي. وهذا ما حققته.

ساعد التصدي للقوات الأجنبية في تثبيت الجمهورية وتعزيز مواقع رجالها ونشر أفكارها الجديدة، فقررت الجمعية التشريعية في مؤتمرها الأول تنحية الملك وإلغاء الملكية الدستورية وإعلان الجمهورية في 21 سبتمبر 1792 تحت شعارات ديمقراطية عامة تلخصت في كلمات ثلاث: الحرية والمساواة والإخاء.

هذه الكلمات الرومانسية لم تكن كافية لوقف دورة الدم. فالحركة الجمهورية انفتحت على دائرة العنف وبدأ التطرف يقود رجال الثورة إلى مزيد من التطرف. وطغت على رجال الجمهورية مجموعة أفكار تطهرية تدعو إلى اجتثاث بقايا المرحلة السابقة. فأصدروا حكماً برلمانياً بإعدام لويس السادس عشر في 21 يناير/ كانون الثاني 1793. وبعدها أخذت الثورة تأكل بعضها بعضاً. فانقسم البرلمان ودخل رجال الجمهورية في مرحلة صراع على السلطة وتخوين بعضهم وتصفية المخالفين أو المعترضين.

شهدت فرنسا خلال سنة واحدة سلسلة مجازر نفذها رجال الجمهورية ضد كل من يُشتبه فيه. وانقسم قادة الثورة إلى تيارات نجح المتطرفون في السيطرة عليها بقيادة روبسبير. ونفذ روبسبير عشرات المجازر وأعدم 18 ألفاً وساق الآلاف إلى السجون وأعلن الطوارئ وعلّق الدستور واستباح الحرمات، ولم يوفر حتى تلك الحلقة المؤيدة له فأعدم أقرب الأصدقاء إليه.

انتهت الثورة الجمهورية التي حملت شعارات رومانسية إلى تأسيس نظام استبدادي يعتمد الإرهاب في سياسة التعامل مع الآخر. والآخر ليس دائماً ه

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1288 - الخميس 16 مارس 2006م الموافق 15 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً