دافعت بعض وسائل الإعلام الغربية عن صحيفة «جيلاندز بوستن» الدنماركية التي قامت بنشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للنبي الأكرم محمد (ص) واعتبرت هذه الرسومات ممارسة لحرية التعبير والفكر. ولا يبدو أن قاعدة حرية الفكر بالمفهوم الغربي قادرة على مواجهة الكثير من الإشكالات في الواقع العملي، لذا قاد هذا الوهن إلى ممارسات واستثناءات تتناقض مع هذا المبدأ ذاته، ومع مبادئ وقيم أخرى طالما تفاخر بها الغرب على الإنسانية.
الليبرالية الغربية خرج من رحمها نظامان، الديمقراطية كنظام سياسي، والرأسمالية كنظام اقتصادي، وحرية الفكر تعتبر أحد الأعمدة الأربعة للنظام الغربي: الحرية الشخصية، والسياسية، والاقتصادية، والفكرية.
والفكر الديمقراطي الرأسمالي في مفهومه للحرية الفكرية، يمنح الإنسان مطلق الحرية دون قيد من دين أو قانون، بشرط أن لا تمس الممارسة فكرة الحرية ذاتها، فحرية الفكر والتعبير في ذاتها مقدسة، فهي بمثابة دين لا يجوز التعرض له أو الدعوة لوضع قيود له، ولذا فالزعم بأن فكر الحضارة الغربية قادر على جعل الأديان تتعايش في إطاره، محل إشكال كبير، خصوصاً أن هذا الدين (أعني حرية الفكر والتعبير بالمفهوم الغربي) يسمح بقدع وسب بقية الأديان والنيل من شخصياتها ورموزها، وبلا قيود أو شروط. في هذه الحال، لا يوجد فرق بين دين الغرب (حرية التعبير والتفكير) وبين الأديان التي تسمح بالتعرض للأديان الأخرى المخالفة لها، في الوقت الذي تحصن معتقداتها وتمنع من مجرد التشكيك فيها.
المشكلة أن حرية الفكر الغربية، كما يطرح السيد محمد باقر الصدر، تقول للإنسان «فكر كما يحلو لك»، غير أن هذا لا يكفي ليكون الإنسان حراً من ناحية تكوين تفكيره، لأن طريقة التفكير هذه لا تؤسس لمسألة البرهنة ولا تطالب بالدليل، ومن ثم تقود الإنسان إلى التعصب وتقديس الأساطير وتصديق الخرافات.
وفهم الحرية الفكرية على النمط الرأسمالي، هو الذي يدفع وسائل الإعلام في الغرب للجوء إلى الدعايات الإعلامية التي لا تقيم وزنا للدليل العقلي، والاكتفاء بالسخرية من الآخرين والاستخفاف بعقائدهم بواسطة الرسوم الكاريكاتيرية وغيرها. وما يحدث تحت دعوى حرية الفكر والتعبير يتناقض مع الكثير من مبادئ الغرب نفسه. فعندما يسمح لوسائل الإعلام بإثارة الأحقاد والكراهية للمواطنين المسلمين، والتجييش ضدهم، وعندما يتم تصوير نبي المسلمين (ص) كإرهابي وقاتل، فإن هذا الفعل على أقل تقدير يعد نشرا للعنصرية ضد مواطنين من دين معين، والإثارة ضدهم. فقد زاد التعرض للمسلمين بحيث وصفت بعض الصحف الغربية المسلمين بالحشرات السوداء ودعت إلى طردهم من أوروبا، علماً بأن 18 مليون مسلم يعيشون فيها.
إذن فقاعدة حرية التعبير والتفكير الغربية غير قادرة على الانسجام مع مبادئ إنسانية تتمثل في التسامح ونبذ الفكر العنصري، فضلاً عن الاستثناءات غير المبررة، التي تتناقض ومفهوم الحرية هذه، كتحريم التشكيك ولو من خلال ممارسة البحث العلمي عن «الهولوكست»، حتى وصل الأمر إلى أن تتحرك أوروبا، في نوفمبر 2005 لإصدار قرار بالإجماع من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة يرفض فيه نكران حدوث محرقة اليهود، واعتبر يوم السابع والعشرين من يناير يوما عالميا لإحياء هذه الذكرى. وفي العام 1990 تقدم نائبان في البرلمان الفرنسي بقانون ضمن قانون الصحافة يهدف لمنع مجرد إثارة الإشكالات بشأن هذه القضية التي يزعم بحدوثها في معسكرات الاعتقال النازية في أوروبا. وسبقها تقديم المفكر والفيلسوف الفرنسي ومنظر الحزب الشيوعي سابقا، روجيه جارودي إلى المحاكمة العام 1998، على خلفية تأليفه كتاباً أنكر فيه محرقة اليهود في أفران الغاز، وتم تغريمه مبالغ ضخمة. مثل هذا الاستثناء وغيره، يضيف دليلا آخر على ضعف صدقية مفهوم حرية الفكر والتعبير في الغرب.
وفي الكثير من الدول الغربية، يمكن أن يقدم للمحاكمة كل من يكتب في حق اليهود الصهاينة بتهمة معاداة السامية حتى لو كانت كتابات علمية وليست دعايات ورسوماً تحريضية، بينما كل ما تقوم بهم وسائل الإعلام الغربية ضد المسلمين ونبيهم (ص) وإظهارهم بمختلف مظاهر التخلف والعداء للحضارة والتطور، مباح ويدخل في نطاق الحرية الفكرية، بغض النظر عما تسببه هذه الحملات التشويهية من مشكلات لهؤلاء المواطنين من المسلمين وإذكاء روح العداء بين البشر.
إقرأ أيضا لـ "عزت عبدالنبي"العدد 1288 - الخميس 16 مارس 2006م الموافق 15 صفر 1427هـ