تضمنت العريضة التي تقدمت بها إلى مجلس الشورى العائلات المتضررة من وضع الحراسة القضائية الحالية اتهامات صريحة لبعض القضاة، جاء فيها «أن من لجأ إلى القضاء وتم تعيين حارس قضائي على تركتهم، يتعرضون للسلب والنهب بالقانون بواسطة الحارس القضائي وبعض القضاة الذين ائتمنتهم وزارة العدل للمحافظة على حقوقهم وحقوق الورثة، كما دعاهم شرف مهنتهم وقسم اليمين إلى التحلي بالنزاهة».
وقد سبق أن تناولنا هذا الموضوع في مقال سابق، أوضحنا فيه المشكلة التي تواجهها السلطة القضائية، وأشرنا إلى أن سببها الرئيسي هو وجود منصب وزير العدل ممثلاً للسلطة التنفيذية فوق السلطة القضائية، وأن تعيينه يخالف أحكام الدستور التي تستند كل أمور القضاء إلى المجلس الأعلى للقضاء وحده، واقترحنا لعلاج هذه المشكلة إلغاء منصب وزير العدل لضمان الاستقلال الحقيقي للسلطة القضائية وعدم تدخل السلطة التنفيذية في أعمالها، كما رجونا أن يتفضل جلالة الملك باعتبار جلالته رئيس المجلس الأعلى للقضاء بعقد لقاء مع القضاة ينبه فيه عليهم بعدم الخضوع لأي أمر أو وساطة أو تدخل من السلطة التنفيذية أو غيرها.
وقد دفعنا إلى الحديث مرة أخرى عن هذا الموضوع دعوة جلالة الملك المواطنين إلى إعانته في حربه على الفساد، وأن يتحلوا بالشجاعة لكشف أوكار هذا الفساد وأساليبه.
الإخلال بالمساواة أمام القضاء
أخل القضاء في البحرين بكثير من تطبيقات مبدأ المساواة أمام القانون، ومن بينها مبدأ المساواة أمام القضاء الذي يعني أن يكون لجميع المواطنين حق التقاضي أمام محاكم واحدة وفقاً لقانون واحد بلا تمييز أو تفرقة، بحيث يتلقى المواطنون كافة وعلى قدم المساواة في ظل الظروف الواقعية نفسها المعاملة القانونية نفسها. وتمثل الفساد الذي ترتب على هذا الإخلال في عدم تطبيق القانون على أفراد بذواتهم ومنحهم حصانة خاصة تجعلهم فوق القانون وبعيداً عن سلطان العدالة، ويتمثل هؤلاء الأفراد في المصفين والحراس القضائيين وفي الوزراء.
إن القاعدة القانونية المتبعة والمطبقة قانونياً وقضائياً في جميع الدول تقرر أن الحارس أو المصفي القضائيين يعتبر كل منهما مسئولاً عن تعويض أصحاب المال الموضوع تحت الحراسة أو الذي تجري تصفيته إذا أصابهم ضرر ناتج عن عدم بذل الحارس أو المصفي عناية الرجل المعتاد، وهما مسئولان في الوقت نفسه عن تعويض الغير عن الضرر الذي لحق بهم جراء خطأ أي منهما الشخصي طالما وقع هذا الخطأ أثناء تنفيذ الحراسة أو التصفية القضائية وبالتجاوز للحدود التي تفرضها القوانين السارية.
ومن الأمور الغريبة وغير المبررة أن يغفل القضاء في البحرين وعلى جميع درجاته ومستوياته تطبيق هذه القاعدة القانونية على رغم عدم وجود نص قانوني يعفي الحراس والمصفين القضائيين من أحكام المسئولية المدنية إذا ارتكب أيّ منهم خطأ سبّب ضرراً للغير، وهكذا أضفى القضاء في البحرين على هذه الفئة حصانة تماثل حصانة القاضي لتمكينهم من الإفلات من أحكام القوانين السارية على رغم تزايد انحرافات بعض المصفين والحراس القضائيين في الوقت الحاضر، ما يعد تشجيعاً لهم على مزيد من الانحراف، بل وحثاً لهم على نهب الأموال الموضوعة تحت تصرفهم بأمر القضاء، بل إن الأمر وصل إلى حد تجاهل المحاكم بجميع درجاتها ومستوياتها لجميع الأسانيد القانونية والمستندات التي يقدمها المتضررون والتي يثبتون بها ارتكاب الحارس أو المصفي إهمالاً وتقصيراً وخطأ عمدياً انطوى على إحداث الضرر بهم وتميز هذا الخطأ بمساحة غير عادية وتخلف أي عذر يبرره وتوافر ومعرفة وإدراك الحارس أو المصفي بالخطر الذي ترتب عليه، ومما يؤسف له أن بعض المحاكم تذكر في حيثيات أحكامها وصولاً إلى هذا الوضع الغريب أسباباً لم يذكرها المدعون أو الطاعنون في لوائح دعواهم وتردد عليها برفض هذه الدّعاوى مع تجاهل الأسباب الثابتة في مذكراتهم، لا لشيء إلا لأن المحكمة ستعجز عن الرد على الاسباب الحقيقية وليس لديها من مخرج سوى ابتداع أسباب وأسانيد غير حقيقية للدعوى.
ولا يقتصر الأمر على إعفاء الحارس أو المصفي من المسئولية المدنية عن خطأه الشخصي الذي أحدث ضرراً لأصحاب المال الموضوع تحت الحراسة أو الذي تجري تصفيته وتوافرت علاقة السببية بين الخطأ والضرر، بل إن الأمر وصل إلى درجة رفض القضاء إلزام الحارس أو المصفي تقديم صور من المستندات المثبتة لما قبضه وما أنفقه من أموال حتى يتمكن أصحاب الشأن من مراجعة حسابات الحراسة أو التصفية على رغم الالتزام القانوني المفروض عليها بنص القانون، وفضلاً عما تقدم ترفض المحاكم عزل الحارس أو المصفي مهما قدم أصحاب الشأن من مستندات تثبت الاستيلاء على أموالهم.
تداعيات الإخلال بالمساواة
لقد أدرك الحراس والمصفون القضائيون أن القضاء يحمي انحرافاتهم وتجاوزاتهم فتمادى بعضهم في الاستيلاء على أموال التركات وغيرها من الأموال الموضوعة تحت الحراسة أو التي تجري تصفيتها، وأدرك بعض القضاة أن من يحمي منهم هؤلاء الحراس أو المصفين القضائيين سيحصل على ترقية سريعة داخل السلك القضائي أو خارجه مثلما شهدنا خلال الشهر الماضي من ترقية أحدهم، ووصل الأمر إلى أن بعض الحراس والمصفين القضائيين أصبح لا يعير الدعاوى المرفوعة ضده أي اهتمام، فلا يحضر جلساتها بنفسه أو بواسطة وكيل عنه ولا يقدم أية مذكرة بدفاعه ولا يرد على دفاع خصومه، وهكذا وصلنا إلى مرحلة صحونا فيها ذات يوم فوجدنا جداراً للفساد يقام في المنطقة الدبلوماسية يعلن من فوقه بعض الحراس والمصفين القضائيين أنهم فوق القانون، وأنه لا توجد سلطة في البحرين يمكنها هدم هذا الجدار مثلما أمر جلالة الملك بهدم جدار المالكية، وليس هناك من تفسير لهذا الوضع الغريب إلا أحد أمرين، أولهما: نستبعده وهو أن يكون قد غاب عن رجال القضاء أنهم يؤدون رسالة مقدسة وأن عليهم احترام القسم الذي أدّوه حين وُلوّا وظائفهم وأنهم يلتزمون بالنطق بما اطمأن إليه وجدانهم وما تمليه عليهم ضمائرهم وصحيح أحكام القانون، وثانيهما نرجحه وهو أن تكون السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل تتدخل في لدى القضاء لحماية الحراس والمصفين القضائيين المنحرفين، وأن القضاء يجد نفسه مغلوباً على أمره على رغم تبعيته لسلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية هي السلطة القضائية.
رجاء لجلالة الملك
إن العائلات المتضررة من انحرافات بعض الحراس والمصفين القضائيين يتوجهون إلى جلالة الملك برجاء أن يتفضل بتشكيل لجنة قضائية من قضاة يتم اختيارهم من دول ديمقراطية تقدس معنى العدالة لتقوم بمراجعة الأحكام التي صدرت لصالح الحراس والمصفين القضائيين وألحقت أضراراً بالغة بهذه العائلات، ثم التفضل بالنظر في تعويض هذه العائلات عما لحقها من ضرر تسبب فيه انحياز القضاء وحمايته لانحرافات بعض الحراس والمصفين القضائيين، على أن يتحمل هؤلاء المنحرفون هذا التعويض مع محاسبة رجال القضاء الذين فرضوا هذه الحماية.
مبادرة مجلس الشورى
يحسب لمجلس الشورى سبق المبادرة إلى الإحساس بمشكلة العائلات المتضررة من نهب بعض الحراس القضائيين لأموالهم، وسعيه إلى وضع الحل الذي تصور أنه يكفل علاج هذه المشكلة والمتمثل في إنشاء جهاز حكومي يتبع وزارة العدل يكون مسئولاً عن أعمال الحراسات القضائية مع توفير الضمانات اللازمة لقيام أصحاب المال الموضوع تحت الحراسة بمراجعة ومراقبة تصرفات الحارس القضائي وتقرير حقهم في الاعتراض عليها.
وفي تقديري أن مجلس الشورى لم يوفق في تحديد مشكلة الوضع الحالي للحراسات القضائية، ذلك أنه تصور أن إسناد أعمال الحراسة إلى مكاتب مدققي الحسابات أو مكاتب الخبرة الخاصة هو السبب الرئيسي في وجود بعض الحراس المنحرفين، وأن من شأن إسناد هذه الأعمال إلى جهاز حكومي ضمان عدم وجود هذا الانحراف، والحقيقة الثابتة في معظم البلاد التي تأخذ بما اقترحه مجلس الشورى أنها تعاني من انحرافات بعض الخبراء العاملين في الجهاز الحكومي المسئول عن الحراسات القضائية، ذلك أن الانحراف يمكن أن يكون موجوداً في المكاتب الخاصة ويمكن أن يوجد بصورة أكبر وأشد ضراوة في الأجهزة التابعة للحكومة، من هنا فإن الحل الذي وافق عليه مجلس الشورى لن يمنع من تكرار حالات الانحراف، بل قد يؤدي إلى زيادتها.
إن المشكلة الرئيسية التي تواجهنا ليست في تبعية الخبراء المسئولين عن الحراسات القضائية لمكاتب خاصة أو لجهاز حكومي، وليست في توفير مزيد من الضمانات لأصحاب الأموال الموضوعة تحت الحراسة لمراجعة ومراقبة تصرفات الحارس والاعتراض عليها إذ ينظم القانون المدني هذه الرقابة، وإنما تكمن المشكلة في أمرين، أولهما: إن القضاء يأخذ بمبدأ عدم مسئولية الحارس عن خطأه الشخصي الذي يسبب ضرراً جسيماً لأصحاب المال الموضوع تحت الحراسة، ومن ثم تمادي بعض الحراس في انحرافاتهم اعتماداً على حماية القضاء لهم. وثانيهما: إن القضاء يرفض تطبيق النصوص القانونية التي تعطي لأصحاب المال الموضوع تحت الحراسة الحق في طلب المستندات المثبتة لما تقاضاه وما أنفقه الحارس حتى يمكن لهم مراجعتها، ويرفض كذلك أي طلب لهذه العائلات لندب خبير لمراجعة أعمال الحراسة على نفقة من يطلب ندب هذا الخبير، ويرفض كمبدأ عام عزل الحارس أو المصفي مهما عرض عليه من مستندات تثبت الانحراف والاستيلاء على الأموال بل ونهبها.
إن الحل الحاسم للمشكلة يتمثل في تطبيق المحاكم للمبادئ القانونية المنصوص عليها في القانون المدني وقانون الشركات التجارية وغيرهما من القوانين النافذة، التي تحدد مسئولية الحارس أو المصفي عن تعويض أصحاب الشأن من أمواله الخاصة عن أي خطأ شخصي يرتكبه ويسبب ضرراً جسيماً، عندئذ سيدرك الحراس والمصفون القضائيون المنحرفون أنهم خاضعون للمساءلة القانونية العادلة، ومن ثم سيرتدع الكثير منهم عن التمادي في الانحراف. وفي تقديري أن وزير العدل حين عارض المشروع الذي أقره مجلس الشورى لتصحيح الأوضاع الحالية للحراسات القضائية كان يعلم أن المشكلة الرئيسية هي في الجهاز القضائي ولذلك لم
إقرأ أيضا لـ "عزت عبدالنبي"العدد 1288 - الخميس 16 مارس 2006م الموافق 15 صفر 1427هـ