العدد 1286 - الثلثاء 14 مارس 2006م الموافق 13 صفر 1427هـ

ماذا وراء الانسحابات؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أعلن وزير الدفاع البريطاني بدء الشروع في تقليص عدد قواته في العراق. وأرفق إعلانه بمجموعة نقاط منها تسليم مهمات الأمن إلى القوات العراقية في الأسابيع المقبلة.

الإعلان البريطاني ليس وحيداً في هذا الشأن. فهناك تصريحات أميركية مشابهة صدرت في الأسبوع الماضي وذكرت للمرة الأولى وجود خطة عملية لسحب قوات الاحتلال من المدن العراقية باستثناء بعض المناطق الحساسة في بغداد.

إعادة قراءة هذه التصريحات والإعلانات المتضاربة ترسم صورة جديدة عن الواقع الأمني في العراق. فالكلام الأميركي - البريطاني لم يتحدث عن خطة انسحاب شاملة وكاملة وانما اكتفى بالإشارة إلى خطط جزئية تتراوح بين التخفيف والتقليص ونقل القوات وإعادة نشرها وتوزيعها أو موضعتها في مراكز محصنة يمكن حمايتها. والكلام أيضاً لم يذكر بدقة الأسباب التي دفعت لندن وواشنطن إلى التفكير في الانسحاب الجزئي من المدن والمناطق الحساسة. كذلك لم يشر الكلام إلى وجود خطة انسحاب واضحة قبل العام .2008

هذا الغموض في خطط السحب والتجميع وإعادة التموضع ترافق مع تفسيرات متعارضة للأسباب الكامنة التي دفعت قيادة الاحتلال إلى اتخاذ مثل هذه القرارات. فالاحتلال لم يوضح الأسباب واكتفى بطرح مجموعة ملاحظات يمكن فهمها على أكثر من جانب سياسي. فهناك كلام غامض عن تلك الكفاءة التي أظهرتها القوات العراقية بعد جريمة الاعتداء على المرقد في سامراء. يضاف إلى هذا الغموض في الكلام مسألة أخرى تتحدث عن خطة جديدة تقضي بإعادة توزيع مهمات الأمن في العراق وتقسيمها على طرفين: الجيش العراقي يكلف متابعة المشكلات الأمنية الداخلية، بينما تكتفي قوات الاحتلال بالتمركز في قواعد ومناطق محصنة ولا تتدخل الا وقت الحاجة.

الانسحاب الشامل والكامل مؤجل إذاً إلى فترة لا تقل عن سنتين بينما إعادة توزيع قوات الاحتلال ونشرها وفق منظومة عسكرية (دفاعية/ هجومية) جديدة باتت مهمة عاجلة ويمكن أن تطبق خلال الأسابيع الأربعة المقبلة.

هذه التحركات العسكرية تتطلب قراءة سياسية من مختلف الجوانب لفهم طبيعة تلك المناقلات والأسباب الحقيقية التي ضغطت على الاحتلال ليتخذ قرار الانسحاب من المدن وبعض المناطق وتجميع القوات في أمكنة محصنة وقواعد عسكرية يصعب اقتحامها.

الاحتلال أعطى تفسيراته الخاصة به وتركزت على إعادة توزيع المهمات والثقة بتلك الكفاءات التي أظهرها الجيش العراقي في ضبط الأمن معطوفاً عليها أحاديث عن بدء التفكير في الانسحاب بعد سنتين بسبب ضغوط الشارع الأوروبي - الأميركي.

هذه التفسيرات قد تكون صحيحة لكنها أيضاً تحتمل الخطأ أو ربما تكون مناورة عسكرية عاجلة أرادها الاحتلال تحسباً لمواجهات قد تحصل في المنطقة أو في بلاد الرافدين. فإعادة النشر والتوزيع والتمركز والتموضع لا تعني دائماً بدء الانسحاب أو التراجع وإنما تحتمل تفسيرات أخرى تتصل بمتغيرات جديدة يتوقع حصولها ميدانياً.

مثلاً، هل وصلت معلومات إلى قوات الاحتلال بوجود خطط لمهاجمة دورياتها المنتشرة على الأرض والمتنقلة بين المدن والأحياء وبعض المناطق؟ هذا سؤال. سؤال آخر، هل بدأت قوات الاحتلال تستشعر وجود حال من القنوط والقرف من مسلكيات جنودها ودورياتها وبالتالي لم تعد تطمئن إلى المحيط البشري الذي لم يعد يثق بالوعود الكاذبة التي أطلقتها واشنطن ولندن بعد غزو العراق؟

هناك الكثير من الأسئلة يمكن طرحها لقراءة تلك التحركات الآنية لقوات الاحتلال. فهذه المناقلات فعلاً تثير علامات استفهام بشأن المهمات الجديدة، وخصوصاً أن واشنطن أكدت مراراً أنها باقية ولن تنسحب قبل تحقيق مشروعها بالكامل. فهل حققت واشنطن مخططها (الفوضى البناءة) وباتت على ثقة بأن الأمن استتب أم أنها اكتشفت ان العراق على قاب قوسين من فوضى عارمة (حروب أهلية) وتريد الانسحاب قبل أن تتعرض لضربات وتتحمل مسئوليات سياسية وقانونية ومعنوية مباشرة.

الاحتمالات كلها واردة. الا أن الشيء المؤكد أن حال العراق اليوم أسوأ من أمس. فالاحتلال حطم القديم ولم يؤسس سوى الفوضى التي يبدو أنها في حال انتشار لا تراجع. فهل هذا هو مشروع إصلاح «الشرق الأوسط» الذي قصده جورج بوش حين تحدث عن تطوير العراق ودول الجوار وإعادة النظر في الخريطة السياسية للمنطقة؟

لا جواب حتى الآن. فكل الأسئلة مطروحة وكل الأجوبة موجودة وهي متنافرة في تعيين الأسباب والأهداف. حتى الآن مثلاً لم تعترف الإدارة الأميركية بالأسباب التي دفعتها لاحتلال العراق سوى تكرار تلك الذرائع الكاذبة التي تبين بالملموس انها غير صحيحة ومختلقة.

ومن يكذب ثلاث سنوات على شعبه والعالم لا يتردد في الكذب مجدداً عن النتائج التي أسفر عنها الاحتلال والأهداف الحقيقية التي أرادها من وراء الغزو وتقويض دولة العراق. فمن يكذب في الأسباب لا مانع لديه من تكرار الكذب في النتائج. ومن يختلق الذرائع الواهية لتبرير الأزمة واختراع الحرب لن يتردد في اختلاق الأهداف وتقديم تفسيرات غامضة للدوافع الحقيقية التي أملت على قيادة الاحتلال الانسحاب من المدن وتسليم مهمات الأمن إلى القوات العراقية.

إنها حملة من الأكاذيب ويبدو أن حبل الأكاذيب لم يتوقف. فهناك الكثير من التفسيرات والاحتمالات وكلها تحتمل الصواب والخطأ. إلا أن التجربة المرة تميل إلى ترجيح السلبيات وتفضيل الشك على اليقين. فمثل هذه الإعلانات عن ترتيب جديد لقوات الاحتلال يرفع من احتمالات وجود خطة أخرى بعيدة عن الانسحاب.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1286 - الثلثاء 14 مارس 2006م الموافق 13 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً