ينتهي اللبنانيون في حديثهم إن كان في صيغة التساؤل بعبارة «ما... هيك» والسوريون ينتهون في الصيغة نفسها بالقول «مو... هيك» حقيقة الأمر بين الما والمو يكمن الكثير من الفرق، وألا فرق بين بيروت ودمشق، بل بين فكرة «الوطن الكبير» و«الوطن الصغير الجميل» إلا أن من يلاحظ الفرق في التفسير الأعمق قليلون، وخصوصاً من السياسيين.
بأمل طويل، ولكن محبوس الأنفاس، تابع كثيرون في عواصم شتى من العالم أسبوعا لبنانيا طويلاً من «الحوار» اللبناني/ اللبناني. وكثيرون كانوا يوقنون قبل أن يبدأ وحتى ينتهي، انه ليس لبنانيا بحتا، فقد كان بجانب الأطراف اللبنانية التي التأم ممثلوها الأربعة عشر حول الطاولة المستديرة في البرلمان، هناك أشباح غير مرئية حول الطاولة، ترصد وتتابع وتنصح، وفي بعض الأوقات يأتي هذا النصح قريبا إلى الفرض، وهي أشباح غير مرئية ولكن أنفاسها تتردد في غرفة الاجتماعات.
انفرط عقد الاجتماع الحواري، بعد أن توقفت الحياة في وسط بيروت، وطار البيك وليد جنبلاط إلى واشنطن، وتحركت أسلاك التليفونات متصلة ببعض العواصم العربية وغير العربية، وتقرر هذه الاتصالات، من وجهة نظرها، مكامن النصر ومناطق المساندة للأطراف المختلفة. كل ذلك يجعل المراقب، إن أحسن الظن، أن يصل إلى نتيجة مفادها المثل اللبناني الأزلي «لا غالب ولا مغلوب»، وترحل الأجندة السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية الخانقة التي تضرب معظم فئات الشعب اللبناني، إلى وقت آخر وزمان آخر، ورجال آخرين. ويغوص لبنان في أزمة أصبحت مستوطنة، لا تخيف ولا تخاف.
ودون الدخول في تفاصيل، وأخذاً بالمعطيات المعروفة من توازن قوى داخلي وخارجي، لا يستطيع المراقب إلا أن يقرب إلى الجزم - وأنا اكتب هنا لضرورات النشر قبل بدء الجزء الثاني من الحوار - أن الحوار هو «حوار طرشان»، ولن يقدر من بداخله التوصل إلى توافق، لأن اللبنانيين وقبلهم العرب، تعودوا على أن «الفائز يأخذ كل الجائزة» وكل طرف لبناني يعتقد انه «الفائز»!
أمام نظر العالم تظهر بلاد عربية صغيرة هي لبنان، وفئات مسيسة حتى العظم، بزعامات تاريخية تفشل بأن تجد فيما بينها مخارج لتعويم بلادها، فكيف يمكن أن يقف المراقب مشدوها أمام المشهد العراقي أو المشهد السوداني أو المشهد الجزائري، فكل المشاهد تؤكد فشل النخبة الوطنية العربية للوصول إلى توافق معقول يعوم الوطن، يعطيه فرصة للتنفس، ويدخله العصر الذي ينتظره خارج الأبواب.
المقارنة غير منصفة بأي بلاد أخرى، لا هي منصفة بالمقارنة بسنغافورة ولا هي منصفة بالمقارنة بماليزيا «متعددة الأعراق» ولا هي منصفة حتى بالمقارنة ببلجيكا «متعددة اللغات والهويات». إنها حالة عربية بامتياز، يضيع الفرقاء طريق التوافق، إن لم تكن لهم مرجعية «خارجية» يتعنتون فيما بينهم ويسلموا للآخرين زمام الأمر.
كثيرون لم يعرفوا بعد أن الإشكالية السياسية العربية مازالت تكمن في روح الغلبة، واستخدام البأس الشديد فيما بين الفرقاء في الوطن الواحد. لنلتفت إلى فلسطين، فبين فتح وحماس والجهاد، ربما أكثر مما بين بعض هؤلاء الفرقاء و«إسرائيل» نفسها! على ما بينهم من هوة، هل هذه مبالغة عربية؟ ربما نعم وأيضاً ربما لا. انتخابات حرة ونزيهة، وأول الغيث لا حكومة، ولا اجتماع للمجلس المنتخب! وتصريحات نارية بين الفرقاء. وهذا يحدث في العراق، في اندفاع شبه انتحاري نحو «الحرب الأهلية».
إذاً الفروق غير المرئية بين الما والمو، حالة عربية بامتياز وليست لبنانية/ سورية فقط. إلا أنها هناك أكثر وضوحاً وأشد تأثيراً. في لبنان الفرقاء في الوطن الواحد يتوسلون «الوطنية» والبعض يتوسل «القومية» كي يقرروا أنهم يحملون «الحقيقة» الكاملة، ويعرفون الطريق الصحيح من دون غيرهم لإنقاذ الوطن المهدد، الآخر غير المتشبث «بالقومي» هو في أحسن الأحوال «غير وطني» من وجهة نظر هؤلاء وهو يحمل الموبقات، وكل فريق يعتقد أن أكثر الموبقات ثقلاً هو الذي يحملها الفريق الآخر. لذلك فهو فظ غليظ القلب حيال الذين لا يرون رأيه، وتنتهي القضية على وجوب أن يحمل الآخر ولو بالقوة الفظة أن يرى الرأي نفسه، ويعتقد بالأفكار نفسها. وهنا يتبين الطريق المسدود في الحوار. العلاقة بين «القومية اللبنانية» و«القومية العربية» شكلت في لبنان الحاجز والذريعة في شقاق الأشقاء الذي لوث بالدم لأكثر من مرة، ومنذ وقت طويل.
التسامح حيال أصحاب الآراء المخالفة في الوطن الواحد، أمر يتفق مع العقل، إلا أن العقل العربي في الوطن الواحد قلما تكون مرجعيته متماثلة. فالدولة العربية التي نعيش فيها مجتمع من البشر مثل خلق الله الآخرين، عملها الرئيسي هو تحقيق المكاسب المدنية وتحسين أوضاع الناس، كل الناس، منها تحقيق الحرية وتأمين السلامة والحفاظ على الممتلكات الخاصة، وتحقق ذلك عبر تشريعات ملزمة بالتساوي للجميع.
هذه مبادئ بسيطة تحققت على معظم أراضي المعمورة، إلا بعض أرض العرب. وكما أن الله لم يسلط قوما على قوم لإكراههم على اعتناق ديانتهم، فإنه أيضا لم يسلط أحداً على أحد لإكراههم على اعتناق مذاهبهم أو قناعاتهم السياسية. عقد الدولة الحديثة، ومنها اللبنانية وغيرها، هو عقد متغير وغير ثابت، فالدستور يغير بسبب ضغط سياسي، والاتفاق أكان قديماً «أيام الميثاق الوطني» تحت تأثير بشارة الخوري ورياض الصلح، أم حديثا كـ «اتفاق الطائف» تحت تأثير رفيق الحريري، سرعان ما يخترق، بحسب قوة الفرقاء ومصالحهم. وذلك يقرب المجتمع من كونه «المزرعة» لا «الدولة». اغتيل رياض الصلح فتفككت حبال الميثاق الوطني، واغتيل رفيق الحريري فأصبح اتفاق الطائف يُتحدث عنه ولا يطبق.
الدولة الحديثة هي نقيض الطيش، أما الذين يأنسون لطيشهم وغفلتهم فلن يجدوا دولة في نهاية الأمر، بالتأكيد سيجدون غابة البقاء فيها للأقوى، إلا أن القوة في عالم اليوم نسبية، فمن زاغ عقله لن تنفعه عضلات.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1285 - الإثنين 13 مارس 2006م الموافق 12 صفر 1427هـ