سلسلة الانفجارات التي حصلت في مدينة الصدر شرق بغداد وأوقعت 300 ضحية بين قتيل وجريح، تكشف عن وجود طرف منظم وجاهز دائماً للرد في أي مكان وزمان. فالانفجارات جاءت بعد يوم من اقتراح الزعيم الديني الشاب مقتدى الصدر بعقد تسوية لأزمة اختيار رئيس للحكومة الائتلافية. فاقتراح الصدر الذي عرض على الحزب الإسلامي اختيار رئيس سني للجمهورية متفاهم مع رئيس وزراء شيعي أثار غضب جهات لا تريد للعراق التفاهم ولا ترتاح لأي توافق معقول بين الطائفتين السنية والشيعية.
سلسلة الانفجارات كانت رسالة واضحة لكل الأطراف بأنه ممنوع على العراقيين التواصل والتقارب والتفاهم على خطوط عامة تنقذ بلاد الرافدين من الاحتلال والسياسة الأميركية التي تعتمد استراتيجية التقويض بأسلوب منهجي ومبرمج منذ ثلاث سنوات. وما حصل أمس الأول من دمار وموت وحرق يدل على أن الاحتلال هو المسئول عن ما حصل لأنه المستفيد الوحيد من دمار العراق وخرابه.
السياسة الأميركية باتت واضحة ومكشوفة حتى لتلك النخب العربية التي تمتهن خداع الناس. فالاحتلال لا يريد للعراق الخير وينوي الشر لدول الجوار وسكان المنطقة. والمدخل الذي تراه واشنطن لاستكمال مشروع التقويض هو الاستمرار في منهجية «الفوضى البناءة» وزعزعة الاستقرار من خلال استخدام أدوات محلية. وهذه الأدوات لابد أن تكون طائفية ومذهبية حتى تستطيع استغلالها لتمرير مشروع التقويض. فالمشروع حتى ينجح لابد أن يستهدف توازنات المنطقة لمصلحة أمن «إسرائيل» من خلال ضرب شبكة علاقاتها الأهلية وإغراق العراق ودول الجوار في معارك هامشية تعطي ذريعة للمحتل في البقاء إلى جوار منابع النفط وطرق الإمدادات. وهذا الأمر لا يحصل إلا إذا افتعلت المواجهات الطائفية والمذهبية التي لا حصر لامتداداتها الاجتماعية في منطقة تتكاثر فيها المملل والنحل.
ما حصل في مدينة الصدر ليس بعيداً في مناخه السياسي/ التقويضي عن تلك الجرائم والاعتداءات التي ارتكبت ضد مرقد الإمامين العسكرين في سامراء وما أحدثته من ردود فعل ضد مساجد السنة والأحياء الآمنة. فالكارثة وقعت على رغم تدخل العقلاء لوقف تداعياتها. والكارثة أوقفت ضد رغبة المحتل وطموحه في دفع أهل الرافدين إلى الاقتتال أو النزوح من هذا المكان إلى ذاك خوفاً من التجاوزات المقصودة التي تفتعلها تلك الأدوات المنظمة والجاهزة للفتنة.
كلام وزير الدفاع دونالد رامسفيلد تعليقاً على حوادث سامراء وتداعياتها كان واضحاً في معانيه وألغازه. فهذا الوزير الشرير (تاجر أسلحة) استبعد دخول العراق في «حرب أهلية» ولكنه لم يستبعد حصولها في حال تكرر ما يشبه حادث الاعتداء على المرقد. فالكلام الأميركي يشبه الإنذار.
وما قاله رامسفيلد لا يحتاج إلى جهد كبير في التحليل أو عناء في التفكير. فهو يهدد أهل العراق بالحرب الأهلية إذا لم تنصع القوى السياسية لأوامر واشنطن. والأوامر هي القبول بالسياسة الأميركية كما وضعت خططها البنتاغون وإلا فالبدائل جاهزة وتقوم على تكتيكات تأليب الناس والتلاعب بالتعارضات المذهبية والطائفية.
الاستراتيجية الأميركية في المنطقة باتت مكشوفة وخلاصتها أنها لا تريد «الإصلاح» و«الديمقراطية» و«تمكين المرأة» بل تخريب ما استقر من علاقات أهلية بين الطوائف والمذاهب. والولايات المتحدة ليست غبية كما تتظاهر وليست بريئة من تلك الكوارث التي حصلت وتحصل. فإدارة واشنطن تدرك أن الطائفية والمذهبية وما يتفرع عنهما هي من نقاط ضعف المنطقة. فنظام الملل والنحل يشكل مدخلاً سياسياً لزعزعة الاستقرار بهدف استكمال مشروع التقويض وإعادة رسم خريطة الدول وفق منهجية تدمير ما هو قائم وترك الباقي يتفاعل حتى تظهر «فيدراليات» موزعة على مساحات الملل والنحل.
دويلات «الملل والنحل» ليست بعيدة عن استراتيجية تقويض دول «الشرق الأوسط». فهذا النوع من الدول يضعف المنطقة ويعطي شرعية لوجود دولة ذات طابع ديني تدعى «إسرائيل» ويساعد واشنطن على البقاء لحماية منابع النفط.
ما حصل من سلسلة تفجيرات في مدينة الصدر ليس بعيداً عن تلك الأجواء السلبية التي أثارها رامسفيلد في تصريحاته الأخيرة. فهذا الوزير ردد مراراً احتمال حصول حرب أهلية في حال تكررت حوادث تفجير المواقع الدينية. كذلك أوضح أن بلاده (قوات الاحتلال) ستقف على الحياد ولن تتدخل في الحرب الأهلية تاركاً المهمة للجيش العراقي لاحتواء نيران الفتنة.
هل ما قاله رامسفيلد زلة لسان أم أنه يعني ما يقول؟ يرجح أنه يعني ما يقول، وعلى أهل العراق الحذر من مخطط الانزلاق نحو دويلات «الملل والنحل»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1285 - الإثنين 13 مارس 2006م الموافق 12 صفر 1427هـ