العدد 2457 - الخميس 28 مايو 2009م الموافق 03 جمادى الآخرة 1430هـ

صاعد الأندلسي في عصر أمراء الطوائف(2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

وليد نويهض

اللامركزية ساهمت في نشر ثقافة القراءة 

الوسط - وليد نويهض

من هذا التحديد الجغرافي العشوائي يقرأ القاضي صاعد تاريخ العلوم في الأندلس من «وسط المئة الثالثة من تاريخ الهجرة، وذلك في أيام الأمير الخامس من ملوك بني أمية، وهو محمد بن عبدالرحمن بن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل إلى الأندلس بن هشام بن عبدالملك بن مروان بن أبي العاص بن أمية». وبرأيه اقتصر العلم في تلك الفترة على أفراد من الناس تحركوا إلى طلب العلوم «ولم يزالوا يظهرون ظهورا غير شائع في قريب وسط المائة الرابعة» (ص 158- 159).

اشتهر في تلك الفترة ثلاثة: أبو عبيدة مسلم بن أحمد بن أبي عبيدة الليثي (توفي سنة 295 هجرية/ 907م)، يحيى بن يحيى (ابن السمينة) من أهل قرطبة و»كان معتزلي المذهب ورحل إلى المشرق ثم انصرف وتوفي في سنة 315 هجرية»، ومحمد بن إسماعيل (الحكيم) وكان عالما بالحساب والمنطق وهو الذي انتدبه الأمير الحكم في فترة والده (الناصر) للعناية بالعلوم و»إيثار أهلها واستجلب من بغداد ومصر وغيرهما» وتوفي سنة 331 هجرية (ص 162). وتابع الأمير الحكم في عهده جمع الكتب وترجمة مؤلفات الأوائل وتعلم مذاهبهم إلى أن توفي سنة 366هجرية/ 976م.

بعد رحيل الأمير الحكم ظهرت العصبية العامرية في عهد ابنه القاصر هشام المؤيد فقام الحاجب أبو عامر (المعافري القحطاني) بحرق الكتب عدا التي تهتم بالشريعة واللغة والحساب والطب والرياضيات وأتلف تلك التي تهتم بالفلسفة والمنطق و»كان كل من قرأها متهما عندهم بالخروج عن الملة مظنونا به بالإلحاد في الشريعة، فسكن أكثر من كان تحرك للحكمة عند ذلك وخمدت نفوسهم وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم» (ص 164). من أبرز من نالت منه فتنة حرق الكتب في أيام المنصور (محمد بن أبي عامر) كان سعيد بن فتحون بن مكرم المعروف بالحمّار السرقسطي وكان متحققا بعلم الهندسة والمنطق والموسيقى وسائر علوم الفلسفة إذ أصابته «محنة شديدة مشهورة السبب أدته بعد إطلاقه من سجنه إلى الخروج عن الأندلس فتوفي في جزيرة صقلية» (ص 168).

بعد انقراض دولة بني أمية و»افترق الملك على جماعة من المخربين عليهم في صدر المائة الخامسة من الهجرة وصاروا طوائف واقتعد كل واحد منهم قاعدة من أمهات البلاد بالأندلس، فانشغل بهم ملوك الحاضرة العظمى قرطبة عن امتحان الناس والتعقب عليهم واضطرتهم الفتنة إلى بيع ما كان بقي بقصر قرطبة من ذخائر ملوك الجماعة من الكتب وسائر المتاع فبيع بأوكس ثمن وأتفه قيمة. وانتشرت تلك الكتب بأقطار الأندلس ووجدوا في خلالها اغلاقا من العلوم القديمة كانت أفلتت من أيدي الممتحنين لخزانة الحكم أيام المنصور بن أبي عامر» (ص 164). فصاعد يرى في الفتنة الأندلسية بعض الحسنات وعناصر إيجابية ساعدت على اليقظة الفكرية وعودة الوعي حين تفرقت الكتب بسبب تفرق العصبية الجامعة والحكم المركزي في قرطبة. فالفتنة شجعت على شراء الكتب وطلب نسخها والاطلاع عليها، إذ أظهر «كل من كان عنده من الرغبة بشيء منها ما كان لديه، فلم تزل الرغبة ترتفع من حينئذ في طلب العلم القديم شيئا فشيئا وقواعد الطوائف (يقصد أمراء الطوائف) تتبصر قليلا قليلا إلى وقتنا هذا» (ص 165).

يعتبر صاعد أن حال عصره (أمراء الطوائف) أفضل «ما كانت بالأندلس في إباحة تلك العلوم والأعراض عن تحجير طلبها» إلا أن وضع العلوم تراجع بعد أن تقلص الاهتمام بها بسبب انشغال أمراء الطوائف بحروبهم الداخلية وحروب الفرنجة ضدهم، إذ إن «اشتغال الخواطر بما دهم الثغور من تغلب المشركين عاما فعاما على أطرافها وضعف أهلها عن مدافعتهم عنها قلل طلاب العلم وصيّرهم أفرادا بالأندلس» (ص165).

هكذا اكتملت نظرية الصعود والهبوط في منهجية صاعد الفلسفية، فهو بعد أن وجد في الفتنة عناصر إيجابية حين جرفت معها دولة العامريين وفككت وحدة الدولة المركزية وساهمت عن غير قصد في نشر العلوم بسبب إقدام أهل الفتنة على بيع ما تبقى من مكتبة الحكم طلبا للمال، بدأت مرحلة التراجع حين استغل الفرنجة ضعف دويلات الطوائف فأخذوا بالضغط العسكري على أطرافها وثغورها لكسب المواقع وتحسين شروط التفاوض مع أمراء الممالك الصغيرة.

بقي الحال على ما هو عليه بين مد وجزر في عصر أمراء الطوائف، خصوصا حين تنافست الأسر الحاكمة على الاتصال بملوك الفرنجة للاستقواء بهم ضد الداخل. كذلك تنافست على كسب العلماء والقضاة وخطب ود الفقهاء والأدباء لتزكية حكمهم وهو أمر شجع في النهاية على تكريس التعدد الفكري والتنوع الفقهي والاصطراع الثقافي.

أدت اللامركزية إلى نمو تيارات متضاربة شهد صاعد حالاتها وعايشها عن قرب في طليطلة عندما ذهب إليها في سنة 438 هجرية (1046م) ودرس هناك وتولى أمر القضاء فيها وعاصر أميرها يحيى بن إسماعيل بن موسى بن ذي النون «عظيم ملوك الأندلس» (ص 158).

بسبب اختلاف ظروف النشأة وتغير طبيعة الدولة وتبدل وظائفها، إلى فارق السن بين ابن حزم وصاعد الأندلسي، اختلفت رؤيتهما للتاريخ والحوادث والأفكار. فابن حزم عاش في العاصمة (قرطبة) وابن عائلة سياسية تبوأت المراتب في العهد الأخير من الفترة الأموية فمالت سياسته على رغم أصوله الفارسية إلى الدولة المركزية وتأييد وحدتها حين تمسك بالعصبية المروانية، بينما عاش صاعد في طليطلة وهي مدينة طرفية تقع في وسط الأندلس في عصر «أمراء الطوائف» فمال، على رغم أصوله العربية (من قبيلة تغلب)، نحو لامركزية الدولة وتعدد أقطابها وملوكها.

إلى اختلاف ظروف النشأة لعب فارق السن دوره في تشكيل تصورات مغايرة بين الرجلين. فابن حزم من مواليد سنة 384 هجرية (994 م) في لبلة من غرب الأندلس وعاصر الفترة الأموية في عهد دولة العامريين وشهد الفتنة وكان من ضحاياها فاعتقل وشرد وحرقت كتبه وذاق مرارة الاضطهاد في فترة «أمراء الطوائف» حتى حين اعتزاله السياسة بسبب تأييده الضمني لعودة الدولة الأموية، بينما ولد صاعد في المرية سنة 420 هجرية (1029م) في نهايات الفتنة وبدايات عصر «أمراء الطوائف» ودخول الأندلس مرحلة من التفكك السياسي للدولة وبروز مراكز قوى متنافسة ضد بعضها فانكشف وعيه الفلسفي على واقع متفسخ.

كانت تأثيرات الفتنة (الحرب الأهلية) بالغة الحساسية في حياة ابن حزم وتلقى نتائجها السلبية وعكسها في أفكاره، بينما راقب صاعد آثارها عن بعد ولم يلحظ خطورة التفكك السياسي على الوجود الحضاري الإسلامي في تلك المنطقة الجغرافية من أوروبا. فالظروف والنشأة وفارق السن أسسوا اختلاف الرؤية، مضافا إليها نمو الحركة الفكرية في طليطلة التي ساهمت بدورها في تكوين وعي مفارق في فكر صاعد تميز عن وعي فقيه قرطبة (ابن حزم) وفكره.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2457 - الخميس 28 مايو 2009م الموافق 03 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً