يصف مفكرٌ العالمَ العربي، قائلاً: «المجتمع العربي أمام استعصاء تاريخي في مثلث مكون من مواطن تائه ومثقف مدجن وفقيه غائب عن العصر». لا يمكن اختزال آلام العالم العربي في هذا المثلث، لكنه جزء من تشخيص موضوعي. مواطن تائه أمام حزمة من الشعارات، ومثقف يجره إلى الشخصانية وفقيه (بمعنى رجل دين) ينام في عصر ويتحدث بلغة خارج اطار العصر. طبعاً ليس كل المواطنين تائهين وليس كل مثقف مدجنا أو بهلوانا سياسيا وليس كل عالم دين أو فقيه غائبا عن العصر.
المشكلة ان أكثر المنظرين للسياسة لم يدرسوا سياسة، ولم يتخصصوا فيها ولا يقرأون عن فنها وكيف تدار. وهذا إشكال كبير. أنت لا تستطيع - بقدرة قادر- أن تصبح طبيبا في جراحة العيون لأنك قرأت بحثا - هذا إذا قرأت - عن عملية في العيون في مجلة العربي! أو تصبح محاميا وأنت خريج هندسة. في السياسة الكل يفتي ويدلي برأيه، من بائع الايسكريم مروراً ببائع الأواني وليس انتهاء بالدرويش الصوفي القابع في السرداب. كلنا نفتي في الاقتصاد وننظر للسياسة ونجيب عن أسئلة تتعلق بعلم النفس والاجتماع، ولو سألنا واحداً من الناس الذين أصبح الكثير منهم (فئران تجارب) لاخطاء تنظيراتنا: هل انتم دارسون لهذه العلوم؟ عندكم مستشارون؟ تنظيراتكم جاءت وفق دراسات علمية معرفية وأرقام ووثائق وقراءة دقيقة لواقع أم جاءت على البركة؟ غالبية التنظيرات السياسية خصوصا للحركات الشيوعية سابقا والآن الإسلامية تأتي على البركة. هناك غياب للبرامج، للمشروعات وغياب للاستراتيجية. النظام العربي لو سألته فانه سيجيبك على بعض الاسئلة. مثلا: هل أنت مع أميركا؟ نعم. هل تؤمن بالاقتصاد الحر؟ نعم. هل أنت مع الثقافة الغربية؟ نعم، إلخ من الأسئلة. على رغم علات النظام العربي هو يعلم أين هو سائر، لكن السؤال: ماذا عن الحركات السياسية والايديولوجية على شتى توجهاتها؟ ليس عندها خطة اقتصادية والمصارف الإسلامية أكثرها شكل إسلامي وقلب رأسمالي. هل تؤمنون بالتعددية الحزبية؟ الاجابة: مطاطية. تسألهم هل تؤمنون بالبراغماتية أم الثوابت السياسية؟ الاجابة رمادية. هل تؤمنون بالدولة القومية أو الدينية أو المدنية؟ لا تجد اجابة شافية. كثير من الإجابات في المطلق، أية إنشائية. تسأل الخطيب: ما هي خطتك الاقتصادية - في ظل العولمة - يجد السؤال غريبا. تسأله: هل تمتلك مشروعا سياسيا أو إنشائيات تلقيها في الخطبة؟ لا إجابة. سيكلمك - بكل تبسيط - عن قصة فرعون! هل أنت مع المرأة وحقوقها السياسية؟ يجيبك: نعم، لكني ضد انتخابها أو ترشيحها. تسأله كيف يمكن التوفيق؟ لا إجابة، هو معها ولكن ليس هو معها. كيف يكون ذلك؟ الله أعلم.
شخص يبكي على الخلافة العثمانية وشخص على إنشاء الدولة الاسلامية وآخر على تقنين أحكام قطع الأيدي وفرض إغلاق المتاجر عند الصلاة وآخر على إلغاء الجامعة. وتسأل مع من نذهب والقوم فرق وايديولوجيات؟ كل يريد العالم الاسلامي على طريقته الخاصة، وليس شرطاً ان كل ما ادعي انه مطلب إسلامي هو إسلامي. وكم من فتاوى فرقت المسلمين باسم الاسلام كما قال جبران «ويل لأمة كثرت فيها الطوائف وغاب عنها الدين».
ليس لأحد أن يحتكر الرؤية الإسلامية في شخصه الكريم بأنه الأفهم في معرفة الاسلام، خصوصاً في الأمور التي يراعى فيها الزمان والمكان والعصر. لهذا طرح الشاطبي مسألة مقاصد الشريعة وراعى الفقهاء هذين العنصرين في مسألة الفتوى. والبيئة والثقافة لها مدخلية في قراءة الفقيه للنص. عندنا في التاريخ فقيه يوجب دفن الخمس في التراب وعندنا الآن فقهاء يقومون بمشروعات اقتصادية للفقراء السادة عن طريق الخمس. هذه فتوى وتلك فتوى والتشخيص بيدك. فقيه لا يرى حرمة سماع الموسيقى غير المطربة. عندنا فقيه يرى طهارة الإنسان حتى الكافر، فلو سافر إنسان إلى أية دولة غربية لا يتحرج في غسل اللباس وغير ذلك. هناك رؤى وسطية تجاه المرأة وتجاه الحياة الزوجية، فالسيدفضل الله أفتى بجواز حلق اللحية مطلقا (لعدم وجود الأدلة الكافية والدليل سيرة المتشرعة كما يقول أهل الأصول وهو غير ناهض). والسيد الخوئي يجوز حلق العارضين. وهناك فتاوى مهمة للشيخ محمد الغزالي سأتطرق إليها لاحقاً. هذه الفتاوى يجب أن يعلم الناس بها أيضا. فعندنا فقهاء يجوزون دخول المرأة البرلمان فلسنا ملزمين برأي واحد وهناك عدة آراء
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 1284 - الأحد 12 مارس 2006م الموافق 11 صفر 1427هـ