بعد قليل من الوقت تكمل التجربة البلدية عامها الرابع، ويشحذ الكثير من الراغبين بالترشح هممهم لجس النبض في دوائرهم الانتخابية ، إلا أن الكثير من الأمور لاتزال في المنطقة الرمادية، يلفها الغموض وتكثر بشأنها الأسئلة التي تشغل بال المرشحين ومن يقف وراءهم من جماعات وجمعيات وناخبين. ويمكننا طرح الكثير من الأسئلة من قبيل: هل تم تحديد موعد الانتخابات البلدية للعام 2006؟ هل هناك أي تغيير في تقسيم الدوائر الانتخابية؟ هل تفكر الجهات المعنية بإعادة النظر ببعض مواد قانون البلديات؟ هل صحيح أن هناك تغييراً في مكافآت أعضاء المجالس البلدية؟ وما هي الضوابط الجديدة للعملية الانتخابية؟
وأحسب أن كل نقطة بحاجة إلى بحث شامل، لتوضيحها للمواطنين الذين يعيشون الأجواء الضبابية منذ فترة طويلة، ولا يعرفون ماذا تخبئ لهم الأيام المقبلة، ويبدو أن كثيراً من الأمور في هذه البلاد صارت في حكم المقدسات وأسرار الدولة التي لا يتاح لأحد أن يعرفها أو يطلع عليها قبل الموعد الذي تحدده الجهات المسئولة. وهذه الأجواء تتناقض مع ما يتم الترويج له من اعتماد الشفافية والمصارحة التي يحتاجها الناس لبناء قراراتهم. وللتدليل على ما نذهب إليه سنتعرض للأسئلة السابقة بشيء من التفصيل.
أولاً: موعد الانتخابات البلدية: تسري الكثير من الإشاعات بشأن موعد الانتخابات البلدية، وتفسح السلطات الباب واسعاً أمام ذلك، لتقدم مادة دسمة للصحافة يدلي فيها كل بدلوه، بينما تلتزم هي بالصمت المقدس، ما يبعث على الاستغراب الشديد. ففي كل الانتخابات العامة وفي كل بلاد العالم، يعرف المواطنون موعد الانتخابات، ما يتيح المجال للأحزاب والجمعيات والجماعات السياسية والأفراد التخطيط لها قبل فترة كافية، لوضع البرامج الانتخابية وتهيئة فرق العمل الخاصة بالحملات، وصوغ التحالفات والتفاهمات. لكننا هنا مطالبون بضرب الودع، أو اللجوء إلى التنجيم، مع أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من تصريح من أحد المسئولين بدل ترك الجميع في دوامة البحث عن موعد يفترض أن يكون قريباً.
في العام 2002 جرت الانتخابات البلدية في 9 مايو/ أيار، وجرت انتخابات الإعادة بعد أسبوع واحد فقط (16 مايو)، وبحسب قانون البلديات فإن الانتخابات يجب أن تجرى في الشهرين الأخيرين من عمر المجالس البلدية التي تستمر دورتها 4 سنوات فقط. وقد أدخلنا القانون في عملية حيص بيص، فهناك من يقول إن السنوات الأربع يجب أن تحسب من تاريخ أول اجتماعات المجالس البلدية، وهناك من يقول إنها يجب أن تجرى في موعدها السابق، وهناك من يحسب نهاية دورة المجالس بدخول إجازتهم الصيفية الأخيرة حيز التنفيذ مع نهاية يونيو 2006، وبالتالي فإن تفسير الشهرين الأخيرين من عمر المجلس يعني بشكل تلقائي مايو ويونيو.
وبغض النظر عن التفسير الصحيح، فإن هناك حاجة لأن يخرج مسئول رسمي يعلن موعدها رسمياً، مع إنني من المطالبين بإجرائها في الموعد المحدد (مايو)، بعيداً عن الحديث عن إمكان الجمع بين الانتخابات البلدية والنيابية.
ثانياً: تقسيم الدوائر الانتخابية: كثر الحديث عن الأخطاء في تقسيم الدوائر الانتخابية، وأدى ذلك إلى ضياع الكثير من الأصوات، بالإضافة إلى الظلم الواقع على عدد كبير من المواطنين نتيجة عدم مساواتهم في حق التصويت، فلم تتحقق عدالة صوت لكل ناخب، عبر مقاربة عدد الناخبين في كل دائرة، من خلال اعتماد آليات محددة ومعايير واضحة لعملية رسم الدوائر. وأدى سوء تقسيم الدوائر إلى زرع بذور الفرقة الطائفية، إذ شعر بعض المواطنين بالغبن، بينما شعر مواطنون آخرون بالتميز والحظوة، وساهم هذا الشعور في مطالبة المغبونين برفع الغبن عنهم، وانبرى الآخرون للدفاع عن «مكتسباتهم» ومصالحهم. من هنا ازدادت الهوة بين الفريقين وفتح المجال لزرع الفتنة والتصيد عمداً، بينما كان يجب اعتماد تقسيم الدوائر بشكل يتيح هامشاً أكبر من الالتحام والتعايش بين المواطنين ويبعد شبح الطائفية، ويغلق الباب أمام التفكير بالاصطفاف الطائفي الضار للوطن والمواطنين.
إن من المهم أن تعلن الجهات المسئولة عن برنامجها لإعادة تصحيح تقسيم الدوائر الانتخابات البلدية والنيابية، قبل أن ينعكس تقسيم الوطن تقسيماً للمواطنين بشكل نهائي غير قابل للوحدة، وهنا فإن الإعلان عن وجود هذا التوجه لدى الجهات المسئولة سيكفي لتخفيف التوترات والشحن، حتى لو تتطلب تنفيذه وقتاً.
ثالثاً: إعادة النظر في قانون البلديات: طالب عدد كبير من أعضاء المجالس البلدية بإعادة النظر في بعض مواد قانون البلديات، وعللوا ذلك باصطدامهم بهذه المواد التي ساهمت في تعطيل دور المجالس، وأدخلتهم في مماحكات طويلة مع الأجهزة التنفيذية، وعرقلة الكثير من المشروعات.
والمتتبع لأداء المجالس البلدية، يشعر بتطور هذا الأداء على رغم كل ما واجهه البلديون من عوائق بسبب القانون أو لأي أسباب أخرى خارجة عن إرادتهم، لكن المهم والمطلوب الآن أن تنتهي الضبابية والتردد في هذا المجال، من خلال إعلان واضح وصريح عن إمكان مراجعة هذا القانون وتعديله بما يتناسب مع الخبرات والتجارب التي عاشتها البلاد خلال الأربعة الأعوام الأخيرة.
رابعاً: مكافآت أعضاء المجالس البلدية: شكلت المكافآت المالية للبلديين عائقاً أمام تفرغ عدد من الكفاءات لخوض غمار التجربة البلدية، وساهمت في إحجام المختصين من التقدم لانتخاباتها، خصوصاً إذا علمنا أن دخول هذه المجالس يعني الحاجة إلى وقت كبير جداً لمتابعة أعمالها مقابل مكافأة يعتبرها الكثيرون زهيدة إذا ما قورنت بحجم العمل المطلوب إنجازه. وزاد من صعوبة الأمر، الخسارة التي يتعرض لها المتفرغون للعمل البلدي على صعيد احتساب سنوات تأمينات الخدمة الاجتماعية، إذ يتوقف رصيدهم التأميني طوال سنوات خدمتهم البلدية، علاوة على الكثير من الضغوط النفسية والاجتماعية التي يتعرضون لها من قبل أصحاب المصالح المعطلة في محيط دوائرهم، خصوصاً إذا فشلوا في الوفاء بطلبات المواطنين نتيجة لعوائق قانونية أو بيروقراطية.
لقد صدرت بعض التصريحات الرسمية التي وعدت بزيادة المكافآت المالية التي يحصل عليها البلديون بمقدار 50 في المئة، لكن هذه الوعود بحاجة إلى أن تتحول إلى قرارات ملزمة واعتمادات مالية في موازنة السنوات المقبلة حتى يعرف الراغبون في الترشح ما ينتظرهم مقابل تفرغهم، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالكفاءات العلمية من مهندسين واختصاصيين.
خامساً: الضوابط الجديدة للعملية الانتخابية: لقد اعتمدت السلطات نظاماً انتخابياً استثنائياً، فهي أفردت لكل دائرة مقعداً واحداً فقط، ورسمت الدوائر الانتخابية بالمشرط الطائفي، ووضعت شروطاً تعجيزية للفوز بالانتخابات تقضي بإلزامية الحصول على أكثر من 50 في المئة من أصوات الناخبين في العملية الانتخابية. وأدى ذلك في كثير من الحالات إلى تعزيز الفرز الطائفي، وما يتبعه من شحن وتوتر ساهم في تعميق التفرقة والتشدد والتباعد بين أبناء البلاد، بل إن ذلك دفع عدداً كبيراً من المواطنين إلى الإحجام عن المشاركة في العملية الانتخابية، لمعرفتهم السابقة بعدم قدرتهم على التأثير في النتائج التي حسمت سلفاً لصالح هذه الطائفة أو تلك. فنحن نواجه ضوابط انتخابية «تشرعن» الفرقة وتؤسس للخلافات والنزاعات التي تؤدي في مراحل متأخرة إلى نشوء نزاعات عنيفة لا يحمد عقباها، لذلك فإن إعادة النظر في ضوابط العملية الانتخابية، أصبح من الضروريات القصوى، ولابد من اعتماد خطط جديدة لضبط العملية بصورة تعزز الوحدة الوطنية والاندماج بين أبناء الوطن، وهي مهمة يجب على السلطات المبادرة إلى دراستها بجدية، وفي أضعف الأحوال وضع جدول زمني مناسب لمعالجتها قبل فوات الأوان.
إنه الموقف الضبابي يخيم على مناحي الحياة، فيسهم في خلق أجواء من الحذر والتوجس، قد تهدد بكوارث لا يعلم إلا الله مدى الضرر الذي ستلحقه بالوطن والمواطن.
لقد حان الوقت للإجابة على الأسئلة المعلقة، والخروج من هذه المنطقة الرمادية التي لا نجد لها مبرراً سوى الرغبة في تعقيد الأمور أكثر مما هي معقدة أصلاً.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1284 - الأحد 12 مارس 2006م الموافق 11 صفر 1427هـ