الحديث عن الوطن ككيان سياسي قائم، مفصول عن بقية الكيانات الوطنية والسياسية الأخرى المجاورة له إذا كانت مسلمة شعبياً وحكومياً أمر في غاية الصعوبة والحرج، والحديث عن الوطن بعيداً عن المسلمين في العالم الذين يعيشون الشتات والمهجر أو الذين يعانون قسوة الواقع وآلام الإنسانية وعذابات الحرمان هو أشد قسوة وأعظم مرارة.
جزء مهم من تلك المرارة والقسوة تتشكل على أرضية السجال الدائر بين الوطني والديني، الوطني المحدود بحدود جغرافية وتضاريس طبيعية، والديني الممتد حيث وجد مسلم على هذه المعمورة، سواء شكال له كياناً ينتمي إليه أم كان من الضعف والقلة وعدم الحيلة بلا انتماء كتلي أو فئوي أو دولي سوى انتمائه لمبدئه ودينه.
مخاوف جمة ومهمة تتنازع الإسلاميين في حديثهم عن الوطن ربما كشفت عنها مقولة رجل الفكر الراحل أبوالأعلى المودودي حينما قال: «إن المسلم لا وطن له»، وهو بالدقة ما تغن به الإسلاميون والحركيون على وجه الخصوص بقولهم:
أضحى الإسلام لنا دنيا وجميع الأرض لنا وطنا هذه المخاوف لها ما يبررها ويعزز من تمسك الإسلاميين بها، سواء قبلناها كتحفظات أم تحفظنا نحن بدورنا عليها باعتبارنا نقرأ ونستمع ونعي ولنا أن نشكل وجهة نظرنا إزاء أي موضوع يرتبط بواقعنا ويؤثر فيه.
أول تلك المخاوف هو الهاجس الذي يلاحق حدود الأوطان وترسيمها الدولي باعتبارها صنعة الاستعمار ووليدته المشبوهة، والالتزام بها تكريس للفواصل التي سعى لتثبيتها بدافع سياسي، وإنجاح لتعميق التجزئة في عالمنا الإسلامي، وهي الحلم الذي فرح الاستعمار به حين أصبحت خصائص كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية تعصف بوحدة الأمة وتذكي روح الانفصال فيها.
إن دوائر الاستعمار تستحضر في مخيلتها قوتها العظيمة التي أراعت المسلمين، وهددت كياناتهم الضعيفة، فقد كانت أوروبا المسيحية تشكل خطراً وتحدياً للأمة الإسلامية، وكانت الروم (البيزنطية) خطراً فعلياً ماثلاً يتحدي الوجود الإسلامي، وفي الداخل وصل المغول إلى قلب البلاد الإسلامية وهيمنوا على بغداد، وهي آنذاك عاصمة الخلافة العباسية، وهي تدرك أن بداية هزيمتها هي حين التف المسلمون على بعضهم وشكلوا وحدتهم وإحساسهم ببعضهم.
لقد كان ظهور الدولة العثمانية مع إطلالة القرن الثامن عشر الهجري، وتعلق قلوب المسلمين في أرجاء المعمورة بها باعتبارها الكيان والحصن الذي يمكن أن يعزز كرامتهم ويدرأ عنهم الأخطار المحدقة بهم.وعلى يد السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية العام 1453 زاد رصيد الدولة العثمانية في نفوس المسلمين واندفعوا بوعي يسلمون للدولة العثمانية قيادهم حتى أن المتوكل على الله «الثالث» والذي كان يمثل الخلافة اسمياً تخلى عن موقعه وتنحى متنازلاً للخليفة العثماني سليم الأول عن خلافته (1517) ثم تحركت الكيانات الإسلامية المتكونة على شكل دويلات وإمارات لتعلن الانضواء تحت راية الدولة العثمانية الكبرى.
بهذا الاتحاد والترابط والإحساس بوحدة المصير والحال وصلت الجيوش الإسلامية إلى العمق الأوروبي، فوجد الاستعمار نفسه مدافعاً خائفاً منكفئاً بعد أن كان يغزو ويغير على قلب العالم الإسلامي.
في هذه الأجواء الانتصارية للعالم الإسلامي بدأت مخططات تفتيت الأمة الإسلامية تجد مكانتها في نفوس العسكريين والساسة ورؤساء الدول والحكومات في أوروبا، ولعل أوضح شاهد على ذلك هو الكتاب الذي ألفه (ت. ج. دوفارا) تحت عنوان: «مائة مشروع لتقسيم تركيا».
لقد عاد الضعف مرة أخرى للأمة الإسلامية حين قبلت التفتيت ورضيت به كواقع وجدت نفسها مضطرة للتعامل والتعاطي مع نتائجه، وأخذت الهزائم تتسارع على الأمة، ومقابلها تكثر المخططات التي تعمق الشتات والشعور بالخصوصية في الأمة الإسلامية ليس آخرها ما كتبه الأستاذ محمد السماك في دراسته التي نشرتها مجلة «الوعي الإسلامي» الكويتية (العدد 338)، إذ تحدث عن دراسة إسرائيلية نشرتها مجلة «كيغونيم» (الحقيقة)، تقول الدراسة: «والثابت الوحيد الذي يمكن أن يحقق الأمن الإسرائيلي على المدى الطويل وبثبات هو ضرب الخصم من الداخل، وتقسيمه إلى دويلات قومية وطائفية ومذهبية متصارعة في مسيرة تواكب التسوية السياسية الإقليمية».
ويشير الأستاذ السماك إلى دراسة كتبها المستشرق اليهودي «برنارد لويس» لحساب وزارة الدفاع الأميركية رأى فيها أن أعادة النظر في الخريطة السياسية لتمكين كل أقلية من الاستقلال بدولة أو بحكم ذاتي هي أفضل طريقة لزيادة الصراعات في الأمة العربية والإسلامية وبقائها مشلولة وخاضعة للهيمنة الغربية.
أختم مقالي وأنا لم أناقش الموضوع، وأرجو أن توفقني الأيام لذلك، فالحديث في هذا الموضوع ذو شجون، وما يرد على هذه الاستماتة في الدفاع عن وحدة المسلمين هو الآخر ذو قيمة إدراكية ليست قليلة، لكن وعلى عجالة من الأمر هناك عدة أسئلة يمكن إن تثار على أكثر من صعيد بشأن هذا الطرح النظيف والممعن في حب أمة الإسلام.
من أهم تلك الأسئلة:هل الانتماء إلى الوطن يفضي بشكل قسري إلى ضعف الانتماء للأمة وللمسلمين عامة؟ هل يمكن أن يكون مجموع هذه الانتماءات كما يقول الدكتور محمد عمارة كدرج في سلم تفضي كل درجة إلى أختها؟ هل يمكن المواءمة بين الانتماء للوطن والانتماء للأمة؟ لماذا تفترض التصادم بين الانتماءين الوطن والدين إذا كانت المصالحة بينهما ممكنة؟ هل يمكن أن يقال إن الطرح السابق يسبب نوعاً من الإضعاف والوهن في كيانات الأمة ودولها القائمة، لأن ضعف الانتماء للوطن قد ينزاح على كل الانتماءات فتضعف هي الأخرى في نفس الإنسان؟
كاتب من السعودي
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1284 - الأحد 12 مارس 2006م الموافق 11 صفر 1427هـ