يبدأ اليوم مؤتمر الحوار الوطني اللبناني دورته بعد تعليق جلساته مدى أسبوع. أسباب التعليق كانت مختلفة، فهناك من قال إنها تعود لعوامل خارجية قصفت طاولة الحوار بتصريحات نارية. وهناك من ربط التعليق بوجود خلافات داخلية على نقاط أساسية تحتاج إلى مزيد من الدراسة قبل التوصل إلى اتفاق مؤقت بشأنها.
اليوم يعود اقطاب البلد إلى طاولة الحوار وسط اجواء متشنجة ناجمة عن ضغوط دولية أو بسبب حوادث مفتعلة جرت على طريق الناعمة - الدامور بقصد توتير الأمن وخلق مناخات تدفع بالاطراف نحو مزيد من عدم الثقة.
الحوار إذا بات يحتاج إلى حوار آخر يضع مختلف الفعاليات السياسية والنيابية أمام مسئوليات تشترط على القوى مجتمعة عدم التفريط بهذه المناسبة وتحويلها إلى مسرح للمزايدات.
لبنان الآن يحتاج إلى عقلية تطمح إلى عقد تسوية مؤقتة تضبط ايقاع علاقاته السياسية في إطار مشروع يضمن للجميع مصالحهم. وتوازن المصالح يحتاج دائماً إلى قراءة تحترم التوازنات المحلية واتصال المشكلات اللبنانية بظروف المنطقة وما تتعرض له من ضغوط دولية.
هناك أكثر من قراءة للمرحلة التي يمر بها لبنان الآن. وهذه القراءات ترى مسار البلد من زوايا مختلفة. فالبعض يقرأ حوادث المنطقة والعالم من زاوية محلية. والبعض يقرأ الحوادث اللبنانية من زاويتين إقليمية ودولية. والكل يرى أن الاوضاع خطيرة وأن المنطقة مقبلة على متغيرات قد تؤدي إلى حصول انعطافات كبرى في علاقات الدول وتعيد صوغ التحالفات الإقليمية في سياق جديد.
المشكلة طبعاً لا تتوقف على اختلاف القراءات. كذلك لا تقتصر على صعوبة توحيد تلك القراءات. المشكلة تبدأ من عدم التوافق على تعيين مصادر التوتر والاسباب التي تزيده توتراً.
على طاولة الحوار توجد مجموعة أوراق تتضمن تلك النقاط التي تشكل في مجموعها عناصر الأزمة الراهنة وبالتالي فإن على المتحاورين العمل على محاصرة من يحاول افتعال تشنجات تمنع التفاهم على حد ادنى معقول وتقبل به كل الاطراف. فالمطلوب ليس حل الازمات لأن هذا الطموح يحتاج إلى وضع مختلف تمر به المنطقة. وانما المطلوب احتواء عناصر الازمات ومنعها من الانفلات والذهاب بعيداً في التحديات والاستفزازات.
يستبعد أن تتوصل الاطراف اللبنانية التي عاودت حوارها اليوم إلى اتفاق نهائي ينهي الازمة. فالازمة كبيرة ومساحتها اوسع من جغرافية بلد تتعايش فيه طوائف وتقوده دولة ضعيفة ويعتمد على نظام يفرخ طائفيين. فمثل هذا البلد يحتاج إلى نوع آخر من السياسات ويتطلب مجموعة شروط إقليمية ودولية تساعده على استعادة توازنه واستقراره. وبما أن كل هذه المعطيات غير متوافرة في المرحلة الراهنة فإنه من الصعب توقع توصل الاطراف إلى اتفاق نهائي.
الاتفاق النهائي يحتاج إلى صيغة مختلفة تعتمد انظمة سياسية تساعد على تطوير وظائف الدولة وتوليد لبنانيين يساهمون في تدوير الزوايا ومنع القوى الأهلية من الاستمرار في حقن المشاعر الطائفية واستثمارها لحسابات خاصة محكومة بعصبيات محلية وعقليات ضيقة. وبما أن واقع لبنان لايزال حتى الآن يقوم على فكرة المحاصصة الطائفية التي تتغذى من تنوع العصبيات المذهبية والمناطقية فإن احتواء الازمات يتطلب دائماً تسويات مؤقتة. وهذا النوع من التسويات المؤقتة يحتاج دائماً إلى البحث في صيغ معقولة ومتوازنة بسبب طبيعة الاجتماع اللبناني وصعوبة توحيده في منهجية صارمة ونهائية. فكل صيغة مؤقتة تحتاج دائماً إلى تعديل لتحافظ على دورها.
واقع البلد يفرض شروطه على قياداته. وبالتالي فإن الحلول يجب أن تكون واقعية ومتواضعة ومؤقتة. فمثل هذه الدول يصعب على قياداتها ان تتوصل ولمرة واحدة إلى حل نهائي.
تضاف إلى تنوع خصوصيات لبنان مجموعة مشكلات تتصل بعقد إقليمية ودولية زادتها الولايات المتحدة توتراً بسبب استغلالها للقرار 1559 وضغوطها الدائمة على القوى المحلية للاتفاق على آليات لتنفيذ فقراته.
واشنطن تعلم ان اتفاق اللبنانيين على صيغة نهائية بشأن تنفيذ القرار الدولي مسألة مستحيلة. ولكنها على رغم معرفتها بالامر تستمر في الضغط بهذا الاتجاه ادراكاً منها انه يزيد من التشنجات ويدفع الاطراف المحلية إلى السير في طريق محفوف بالمخاطر... وربما ينتهي إلى تصادمات أهلية على غرار ما هو حاصل في «النموذج العراقي» الذي وعدت المنطقة به.
المتحاورون اليوم تحت قبة البرلمان يدركون ان هناك استحالة للتفاهم على حل نهائي نظراً إلى القراءات المختلفة والاعتبارات المتنوعة والضغوط التي تمر بها المنطقة. فالحل النهائي غير وارد لاسباب محلية وإقليمية ودولية ولكن التسوية المؤقتة من الصيغ المعقولة التي يمكن التفاهم عليها. والتفاهم ليس دائماً يعتمد مبدأ الاتفاق على حل للأزمة وإنما يكون في حالات معينة التضامن على تسوية مؤقتة تقوم على فكرة تأجيل الحل واستبعاد الازمة... درءاً لمخاطر تتربص بالجميع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1284 - الأحد 12 مارس 2006م الموافق 11 صفر 1427هـ