في المقال السابق تم التطرق إلى الكلفة المباشرة وغير المباشرة لهدر المورد المائي الطبيعي الوحيد في البحرين، المياه الجوفية، وتبين أن الكلفة التي يتحملها المجتمع بسبب استغلال هذا المورد بشكل عشوائي كبيرة جداً، إذ تصل الكلف المباشرة إلى نحو 20 مليون دينار سنوياً على أقل تقدير، بالإضافة إلى خسارة الأراضي الزراعية نهائياً بكلفة تقدر بعشرات الملايين. وإذا افترضنا أن فقدان جاهزية المياه الجوفية للاستخدام المباشر بدأت بشكل واضح منتصف الثمانينات فإن الكلفة المتراكمة تكون وصلت مئات الملايين من الدنانير.
أما بالنسبة إلى الخسائر غير المباشرة فتمثلت في خسارة وظائف المياه الجوفية، وفقدان العيون الطبيعية والبيئات الطبيعية للحياة الفطرية النباتية والحيوانية المحلية والمهاجرة، وخسارة التنوع البيولوجي والحياة الفطرية، وبالتالي خسارة المجتمع لفرص استثمار هذه البيئات الفريدة من نوعها في السياحة والتعليم والثقافة والفنون والبحث العلمي، إضافة إلى فقدان المجتمع القيم الجمالية والتراثية والإبداعية لهذه البيئات، التي اشتهرت بها البحرين على مر العصور.
وإذا تم تتبع أسلوب تنمية وإدارة الموارد المائية، فسنجد أن تنميتها بدأت في منتصف الأربعينات مع عمليات التنقيب عن النفط، وتركزت في الاستكشاف والتنقيب عن مصادر المياه الجوفية وتقييمها وتوفير المياه الصالحة للشرب في بعض مناطق التجمعات الحضرية، وظلت مناطق الريفية تعتمد على مياه العيون الطبيعية في تلبية متطلباتها المائية.
وبدءاً من منتصف السبعينات شهدت البحرين، كغيرها من دول الخليج، تنمية متسارعة في مختلف النواحي الاجتماعية والعمرانية والصناعية والزراعية بسبب زيادة أسعار النفط العام 1973، وصاحبها زيادات متعاظمة في الطلب على المياه. وتأثر قطاع المياه وإدارته إلى حد كبير بالإنفاق الحكومي والوفورات المالية، واستمر القطاع في التركيز على إنشاء مزيد من هياكل البنية الأساسية وتوسيع شبكات التوزيع المنزلية وتغطيتها لجميع مناطق البحرين، كما بدأ إنشاء مرافق تحلية المياه منتصف السبعينات، وتبعه التوسع الكبير في إنشاء محطات التحلية منتصف الثمانينات لتلبية متطلبات القطاع البلدي المتزايدة. وفي الفترة نفسها أنشئت محطة توبلي لمعالجة مياه الصرف الصحي، فتوافرت مصادر مياه غير تقليدية بالإضافة إلى مصادر المياه الجوفية.
وبتحليل جهود الإدارة المائية خلال تلك الفترة سنجد هذه الجهود انصبت بالدرجة الأولى على زيادة الموارد المائية لتلبية المتطلبات المتنامية، وتمثل ذلك في زيادة السحب من المياه الجوفية وزيادة إنتاج محطات التحلية، أو ما يسمى بجانب إدارة وتعظيم العرض، ولم يحظ في المقابل جانب إدارة الطلب والتنظيم باهتمام مماثل.
وفي العام 1980، بينت دراسات هيدروجيولوجية وزراعية متكاملة من قبل احدى الشركات الاستشارية أن المياه الجوفية معرضة لخطر النضوب والتملح إذا استمر استغلالها بصورة عشوائية، وأوصت هذه الدراسات بحلول تقنية وتشريعية متكاملة لإدارة المياه الجوفية والمحافظة عليها. وعليه، ولإيقاف نزيف المياه الجوفية ووقف تدهور نوعيتها، وضع المسئولون مجموعة من التشريعات والقوانين لتنظيم استخدامات المياه الجوفية، بداية بإصدار المرسوم بقانون رقم 12 للعام 1980 بشأن تنظيم استعمال المياه الجوفية، واشتمل على الكثير من التنظيمات الرائدة، من أهمها إلزام ملاك الآبار بتركيب عدادات لقياس الكميات المسحوبة، ووضع نظام المشاركة في الآبار بين ملاك الأراضي الزراعية لتقليل عدد الآبار وبالتالي تقليل معدلات السحب، والاهم إعطاء الجهة المسئولة عن المياه الجوفية آنذاك (وزارة التجارة والزراعة) الحق في تحديد كمية المياه الجوفية المطلوبة لكل قطعة أرض زراعية، وإذا زادت الكمية المسحوبة عن المحددة، فرض رسوم على الكميات الإضافية المسحوبة.
واستنادا إلى المرسوم نفسه، صدر قراران (القرار الوزاري 23/1980 والقرار الوزاري 4/1983) بوقف إصدار تصاريح حفر الآبار لمدة 4 سنوات (1980 - 1984) لإعطاء المياه الجوفية الفرصة لاستعادة مستوياتها وتحسين ملوحة مياهها. إلا أن معدلات حفر الآبار في هذه الفترة استمرت في فترة المنع، بل إن معدلات إصدار تراخيص حفر الآبار زادت عن معدلاتها السابقة قبل إصدار هذين القرارين! وأصبحت الاستثناءات هي القاعدة آنذاك. وفي أثناء ذلك تم إنشاء مجلس الموارد المائية في العام 1982 برئاسة سمو رئيس الوزراء وعضوية الوزراء ذوي العلاقة بالمياه (قرار مجلس الوزراء رقم 10/1982) لرسم وصوغ السياسات المائية وحماية وتنمية المصادر المائية، واتخاذ الإجراءات لحل المشكلات المتعلقة بتطبيق السياسات المائية، على أن تكون وزارة التجارة والزراعة الجهاز الاستشاري للمجلس وعلى الوزارات والهيئات المعنية تطبيق السياسات المائية حسب تخصصها. إلا أن هذا المجلس للأسف لم يفعل أبداً، وضاعت بذلك فرصة تاريخية لضبط زمام الأمور قبل انفلاتها، فلم يطبق تركيب عدادات المياه للآبار ولم يفعل نظام المشاركة في الآبار بين ملاك الأراضي الزراعية، ولم تفرض رسوم على الكميات الإضافية المسحوبة لتقنين استخداماتها. ونتج عن هذه الإدارة الضعيفة زيادة كبيرة في معدلات السحب من المياه الجوفية تجاوزت 250 مليون متر مكعب في العام 1997، وهو مستوى يزيد عن المعدل الطبيعي لتغذية المياه الجوفية بمقدار مرة ونصف المرة، وبدأت تظهر تأثيرات ذلك في تدني نوعية المياه الجوفية ليس في المناطق الشرقية والوسطى من البحرين فحسب بل امتدت إلى جميع المناطق بلا استثناء.
ولذلك يعتبر الوضع المائي الحرج الذي وصلنا إليه نتيجة طبيعية لأسلوب الإدارة والسياسات التي اتبعت في العقود الثلاثة الماضية، من زيادة الإمدادات المائية وعدم استخدام الحوافز الاقتصادية التي تعطي المياه قيمتها الحقيقية وتساهم في الحفاظ عليها، والاهم من ذلك إهمال موضوع قوانين حقوق المياه الجوفية والجانب التشريعي لتنظيم استخداماتها. ففي حين أن الاستغلال المكثف للمياه ساعد على تلبية الاحتياجات الآنية العاجلة، فإنه تجاهل أهمية الحفاظ على المياه واستدامتها المستقبلية. كما أدى لبروز كثير من الاستخدامات غير المستدامة للمياه وخصوصاً تدني كفاءة الاستخدام وزيادة الهدر وانخفاض العائد الاقتصادي من توظيف المياه، وتزايد الطلب عليها.
ولم يول جانب إدارة الطلب على المياه وترشيدها الاهتمام الكافي من جانب المسئولين إلا حديثاً، وتمثل ذلك في مجموعة خطط وبرامج لتخفيض سحب المياه للقطاع الزراعي، المستهلك الأكبر للمياه الجوفية في المملكة (70 في المئة)، ومن أهمها برامج إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في الري وإحلالها محل المياه الجوفية بمعدل سيصل إلى أكثر من 70 مليون مترمكعب بحلول العام 2011، إضافة إلى برامج رفع كفاءة الري وتقليل الهدر باستخدام طرق الري الحديثة وتشجيع الزراعة المحمية، وبرامج تغيير محاصيل الأعلاف الخضراء إلى محاصيل بديلة أقل كلفة مائية (تمثل مساحة الأراضي المزروعة بالبرسيم نحو 30 في المئة من المناطق الزراعية فقط، ولكنها تستهلك نحو 70 في المئة من مياه الري الزراعي الكلية)، وتركيب العدادات على الآبار الارتوازية، ووضع مقترح لتطبيق تعرفة لاستخدام المياه الجوفية.
وتشير التقارير الرسمية إلى أن تطبيق هذه الخطط سيؤدي إلى توفير نحو 125 مليون متر مكعب في العام، أي أن معدلات السحب من الخزان ستنخفض من حوالي 200 مليون متر مكعب حالياً إلى أقل من 100 مليون متر مكعب، وهو مقارب لمعدل التغذية الطبيعية للمياه الجوفية، ما سيؤدي إلى تقليل الاستنزاف المائي الذي تتعرض له المياه الجوفية حالياً بشكل كبير. ومن المتوقع، إذا تحقق ذلك، أن تستعيد المياه الجوفية مستوياتها وتتحسن نوعيتها وبالذات في المناطق الشمالية والغربية، ويمكن أن تتدفق بعض العيون الطبيعية مرة أخرى.
إلا أن معظم هذه البرامج والخطط، باستثناء تركيب العدادات، وإلى حد ما إعادة استخدام المياه المعالجة (الذي يواجه ممانعة من قبل بعض المزارعين على رغم مجانية الخدمة)، تواجه بصعوبات في التطبيق. وإذا تم تحليل هذه الخطط سنجد أن البرامج المندرجة تحت جانب إدارة الطلب والمحافظة تواجه معوقات أكبر من تلك المندرجة تحت جانب تعظيم الإمدادات المائية. ويبقى موضوع حقوق المياه الجوفية والتشريعات المائية وتنفيذها الموضوع الاهم في إدارة المياه الجوفية، فطالما كان بمقدور ملاك الآبار سحب المياه الجوفية بأي شكل يرونه وبأي كمية يحتاجونها ولأي غرض يريدونه، ومن دون أدنى مسئولية عن حجم الأضرار التي يمكن أن يسببها ذلك للمياه الجوفية المحيطة لأراضيهم أو للخزان المائي الجوفي بشكل عام، فإن جميع هذه الإجراءات ستكون غير فعالة على المدى البعيد. ومن المتوقع أن تطل المشكلة برأسها مرة أخرى، والكلف أكبر.
ولذلك قد تكون الخطوة الأهم التي يجب التركيز عليها الآن هي اعتبار المياه الجوفية «ثروة وطنية» وإدارتها على أنها «سلعة عامة»، وبالتالي لابد من استرجاع ملكية المياه الجوفية والآبار من أصحاب الأراضي للدولة، ومن ثم مراجعة حقوق استخدام هذه المياه بناء على معايير محددة تضمن سلامة واستدامة المورد المائي. وطبعاً ينبغي إعطاء أولوية استخدام المياه لملاك الأراضي القائمة حالياً، لكن مع وضع التعرفة المناسبة لاستخدام هذه المياه، ليس بهدف استدامة الموارد المائية فحسب بل لزيادة كفاءة استخدامها.
كما يتطلب الأمر أن تتم جدولة موضوع المحافظة على المياه على قائمة الأولويات الوطنية، بدلاً من وضع قضية تزويد المياه كأولوية دون النظر إلى التكاليف الاقتصادية وتدهور نوعية المياه كما هو حالياً. ولقد أكد سمو رئيس الوزراء لدى افتتاحه مؤتمر مياه الشرق الأوسط 2004 والطاقة وإعادة إعمار العراق (13 سبتمبر 2004) أهمية هذه النقطة بالقول «إن المياه أصبحت عنصراً يفوق في أهميته عناصر الطاقة الأخرى، وإن توفيرها بات أحد التحديات
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1283 - السبت 11 مارس 2006م الموافق 10 صفر 1427هـ