نقسو على العراقيين أيما قسوة عندما يقول بعض السنة، بنفس طائفي واحد، إن المتسبب في انفلات جنون الطائفية هم الشيعة، ونتمادى في الضغط على مكامن الوجع لديهم، وبنفس الطائفية ذاتها، عندما يقول بعض الشيعة إن الذين يتحملون وزر هذا الجنون هم السنة، ليتفجر في ضوء هذا القول وذاك بركان من الخزين المتراكم من عدم الثقة الذي أسست له قوى محلية وعالمية يروق لها، على الدوام، هذا الانكسار في العلاقة بين مكونات المجتمع الواحد لتنعم هي بدفء الاستقرار تحت عناوين كاذبة من مثل الأمن الوطني، الذي لا يمكن أن يسود من دون وحدة وطنية حقيقية مخفورة بقيم التسامح وقبول الآخر، ومشمولة بحكم يترفع عن التمييز، ويقيس علاقته بشعبه بمجس المواطنة، لتمارس تحت ستار هذه الكذبة الظلم من دون معارضة تؤرق سكون ليلها، وبالتالي ينتشر صهير ذلك البركان على باقي الدول التي يكتسي بنيانها الاجتماعي بمثل هذا التنوع المذهبي والخليط الديني والعرقي محدثاً صدوعاً في البناء الاجتماعي يقود بالتأكيد إلى زلازل سياسية، بدلاً من أن يستثمر ذلك التنوع لإغناء الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي عبر تيسيرات ديمقراطية تتيح مجالاً لشراكة مجتمعية أوسع. وإذا ما نحن أعدنا تقييم الوضع العراقي نازعين عنه الصفة الطائفية فسيتكشف لنا أن العراق الذي نحن بصدده ليس عراق طائفتين بل هو عراق أعراق وطوائف، عراق أديان ومذاهب.
وإذ أختار «العراق عراقهم» عنواناً للمقال فإنني أعني بذلك عراق العرب والكرد والتركمان، سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين وصابئة وغيرهم من متممات اللوحة العراقية البالغة الجمال، التي أعطت تميزاً حضارياً على مدى التاريخ. هذا العراق الذي نطق عزاً وفخراً، هو ذاته الذي يتلوى اليوم ألما ويئن تحت وطأة الإرهاب ونحن مشغولون عنه بترف الحديث عن الاحتلال ومؤامراته وعن المقاومة وبسالتها، حديث فيه، كما أرى شيئاً من قيام بعملية إخفاء للحال السادية الإجرامية التي ترمي بهولها على العراق أرضاً وشعباً، بات لزاماً أن يتوارى خلف مشهدية الدم التي تعتري المشهد السياسي والاجتماعي، ليبدو جلياً للرأي العام العربي والعالمي هول الجريمة التي ترتكب في حق هذا الشعب باسم القومية والمذهبية، ويفسح المجال للعمل السياسي بأن يأخذ طريقه في البحث عن حلول تقود إلى تثبيت أسس النظام السياسي والاعتراف بالمكونات القومية والمذهبية كأولى أولويات التطبيع الاجتماعي والسياسي، وتجاوز تقسيم العملية السياسية وفق أطرها الضيقة.
وإنني إذ أصف الحديث عن الاحتلال والمقاومة بالترف الذي لا يرقى إلى مستوى المسئولية الوطنية والإنسانية تجاه القتل المتبادل على الهوية بين السنة والشيعة، ألفت النظر إلى أن تفجير قبة المرقدين في سامراء السنية وما استتبعها من حرق لمساجد السنة، هو إعلان للدخول في حرب طائفية يرتجي منها طرف واحد لا ثاني له، حتى وإن بدا هذا الكلام مكروراً، ولكن بحسب ظني هي حقيقة ينطق بها واقع الحال... أقول: يرتجي منها هدم العملية السياسية وتجاوز مترتباتها الكارثية عليهم والتي تقود بالضرورة إلى عراق جديد لا يستوعب مثل هذا التحالف ولا يحتمله، وهذا الطرف هو تحالف الصداميين وإرهابيي «القاعدة». وعلى ذلك، فإن التلكؤ في العملية السياسية، والتردد في شأن المشاركة فيها أو عدمه، مثل ما كان يفعل أهل السنة، ترك أثره السلبي على معطيات العلاقة الملتبسة بين أطراف العمل السياسي، ما ساهم، بقصد أو من دون قصد، في انتشار اليأس بين الشعب واستدخل الهزيمة في نفوسهم، وأتاح، من جهة ثانية، فرصة أكبر للتشاكل مع دول الجوار، سنية وشيعية، التي استحثها الانفلات الأمني وغياب سلطة الدولة على توفير الدعم المادي إلى الجماعات المختلفة، وكل بحسب أجندته السياسية، إذ إن الساحة العراقية أضحت موقعاً جغرافياً، تصوروا كيف أن هذا البلد الذي يختبئ فيه جزء كبير من تراث العرب القديم، ويكتنز حديثه ومعاصره، أضحى موقعاً جغرافياً ليس إلا، مناسباً لها لتصفية حساباتها مع الولايات المتحدة الأميركية التي كانت، برأيها، مصدر أذى لها على الساحة الدولية، مثل سورية وإيران، أو مع تنظيم «القاعدة» الذي بدأت معه حرباً مفتوحة على خلفية تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول .2001
الشاهد أن ما هو حاصل على أرض العراق من استقطاب طائفي حاد له إرث تاريخي ثقيل يلقي بوطئه على كل المشهد السياسي والديني والاجتماعي. فالدولة العراقية التي تشكلت في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، حملت إلى الحكم، بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية، فئات مارست التمييز، تأسيساً على إرث عثماني، ليس على صعيد طبقي فحسب، ولكن على أساس الأيديولوجيا والعرق والمذهب في طور ليس بجديد على ممارسة السلطة في أي بلد عربي آخر. واذا كانت السياسة الطائفية التمييزية قد اكتست اللون الرمادي في فترات ما قبل وصول صدام حسين إلى السلطة، فإنها أضحت اللون الأبرز والسياسة الأرأس في ظل حكمه ووفقاً لهذه الممارسة طال التهميش معتنقي المذهب الشيعي أكثر من غيرهم، فيما وزعت ما بقي من حنق وكراهية في صور إقصاء وتمييز وظلم على كل من وقف ضد ممارساتها من السنة وأبناء الديانات والقوميات الأخرى وما كانت تنطوي عليه تراكيبها الثقافية والفكرية الداخلية من تعددية المعتقد السياسي والقناعات الفكرية من الناصرية والليبرالية والعلمانية والماركسية وغيرها مما رحب به الفكر الإنساني. فالظلم كان فعلاً مؤكداً على الكل فيما عدا من انتمى إلى حزب البعث ونفذ صاغراً كل ما يصدر عن مجلس قيادة الثورة ويصادق عليه صدام حسين، ليغدو الظلم عنواناً لمرحلة امتدت أكثر من ثمانين عاماً. وفي ضوء ذلك لا ينبغي، في اعتقادي، أن نحدث شيئاً من المقارنة يكون فيها نظام صدام حسين أحد أبواب التأسي على ما آلت إليه الحال، لأن بداية الخلل السياسي والاجتماعي هو من حيث قفز صدام حسين إلى السلطة وكرس عملية دمج السلطة بالدولة إلى أن غابت الدولة تحت تأثير السلطة، وبسقوطها سقطت الدولة. ومن هنا تبدو الصعوبة في إعادة بناء مؤسسات الدولة. لأنها، أي الدولة، ظلت منذ تأسيسها مجيرة لصالح السلطة فيما العكس هو الذي كان يجب أن يكون. لذلك، لا ينبغي أن نتوقع أن العراق وإن اشتدت به دورة العنف وعصف به الإرهاب من بعد حكم حزب البعث الصدامي سيكون نمطاً يحاكي النماذج الجمهورية التقليدية المتهالكة على المساحة الجغرافية العربية، ولن يمتثل لدعواتها إلى أن يكون دولة بالشكل الذي ترسمه في تخيلاتها. فالعراق يخوض في الدم، وضريبة التغيير فاقت المتوقع، لكي يصنع مستقبلاً مغايراً، وأظن أن أعداءه من حيث يحاولون عرقلته فإنهم يساعدونه على ذلك ويوجهونه نحو غاياته، ولكن على العرب، في القليل، إظهار شيء من الحياء تجاه رغبته تلك والكف عن مناكفته.
العدد 1282 - الجمعة 10 مارس 2006م الموافق 09 صفر 1427هـ