بعد مناورات سياسية مارست خلالها الولايات المتحدة دبلوماسية الخداع نجحت الإدارة الأميركية في نقل الملف النووي الإيراني من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى نيويورك. فالمعركة أصبحت الآن في مجلس الأمن ولم يعد بالإمكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
المعركة لم تعد تقنية كما كان حالها سابقاً، كذلك تجاوزت حدودها تلك النصوص المتعلقة بحق الدول في البحث عن مصادر بديلة للطاقة. الآن انتقل السجال إلى الساحة السياسية وباتت أنشطة طهران تتلخص في الأيام المقبلة في الحد من قدرات واشنطن ومنعها من استخدام مجلس الأمن وسيلة قانونية للضغط على إيران والمنطقة.
المهمة أصبحت أصعب على طهران لأن الإمكانات المتوافرة لدى الولايات المتحدة في التلاعب بقرارات مجلس الأمن أقوى وأوسع بما لا يقاس مقارنة بقدرات إيران.
ماذا يمكن أن تفعله إيران الآن للحد من الأضرار التي ستلحقها بها الولايات المتحدة في حال استدرجت دول المجلس إلى التوافق على إصدار قرار؟
هناك الكثير من الخطوات يمكن أن تتخذها طهران قبل صدور القرار بإقناع دول المجلس بالاكتفاء بإعلان بيان. فالبيان أقل ضرراً من القرار. وهذا يتطلب مبادرة إيرانية باتجاه الصين وروسيا (وربما فرنسا) تعيد إنتاج صيغة تفاهمية بشأن التخصيب ومكانه. وفي حال توافقت طهران مع بكين وموسكو على مشروع ثلاثي أو ثنائي بضمانة فرنسية محدودة تستطيع أن تقطع على واشنطن سياسة التصعيد مستفيدة من حق النقض (الفيتو) الصيني - الروسي.
هذا الاحتمال تراجع كثيراً، لكنه لايزال وارداً إذا أسرعت طهران في اتخاذ خطوة قاسية ومؤلمة جداً، لكنها مطلوبة لمنع حصول الاحتمال الأسوأ.
في حال لم تنجح طهران في التوصل إلى صيغة تفاهمية (تسووية) مع روسيا والصين (وربما فرنسا) يرجح أن ترتفع نسبة الضغوط الأميركية. فالإدارة الآن دخلت على الخط مباشرة وأطلقت سلسلة تصريحات اعتبرت نفسها معنية بالبرنامج النووي الإيراني. فقبل هذه المرحلة حاولت واشنطن اخفاء هواجسها المفتعلة والتخفي وراء «إسرائيل» و«الترويكا الأوروبية» ودول الخليج مدعية بأنها تدافع عن مخاوف الدولة العبرية وقلق الاتحاد الأوروبي.
الآن انكشف الغطاء وبدأت تطرح بوضوح استراتيجيتها التي تهدف إلى استكمال مشروع تقويض «الشرق الأوسط» وإعادة رسم خريطته وفق النموذج الفيدرالي الطائفي/ المذهبي (والأقوامي) الذي أسسته في العراق.
التصريحات الأميركية الأخيرة كانت الأوضح في التهويل باستخدام القوة العسكرية. وهي تكررت من رئيس الإدارة ونائبه ووزير دفاعه وصولاً إلى وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي قالت أمس الأول «إن إيران هي التحدي الأول أمام أميركا وانه لا توجد دولة تشكل خطراً على أميركا أكثر من إيران». كلام رايس ليس بحاجة إلى شرح وتفسير. فهو ينطق عن حقيقة المشروع الأميركي على رغم المبالغة في تضخيم المخاطر من خلال افتعال الأكاذيب واختلاق الذرائع.
إيران إذاً «هي التحدي الأول أمام أميركا»، و«لا توجد دولة تشكل خطراً على أميركا أكثر من إيران». هذه هي المعادلة الدولية الجديدة التي توصلت إليها أميركا بعد مناورات دبلوماسية طويلة المدى نجحت في تعطيل مهمات وكالة الطاقة ودفعت دول الوكالة إلى الموافقة على نقل الملف إلى مجلس الأمن.
ماذا يمكن أن تفعله إيران بعد أن تعززت احتمالات المواجهة مع «المجتمع الدولي»؟
في حال لم تتوفق طهران في التفاهم مع روسيا والصين على تسوية مؤقتة تستطيع أن تتحرك في مجال دول المجلس وإقناع بعضها بالاكتفاء ببيان رئاسي. وفي حال لم تنجح في هذا المسعى يمكن أن تلجأ إلى تخفيف فقرات القرار والحد من التباساته السياسية التي قد تستغلها واشنطن وتبني عليها مواقف تعطيها تغطية شرعية لتمرير مشروعها التقويضي.
أيضاً في حال لم تتوصل طهران إلى اقناع بعض دول المجلس في التعاون لتدارك حصول هذا الأمر يمكن أن تضغط من خلال ما تبقى من أصدقاء لمنع صدور القرار تحت «الفصل السابع» من ميثاق الأمم المتحدة.
أميركا وبريطانيا وفرنسا تسعى من قريب وبعيد إلى صوغ فقرات قرار يستخدم «الفصل السابع». وهذه خطوة خطيرة لأنها في حال حصلت تعطي شرعية للولايات المتحدة للقيام بعمل عسكري بذريعة أن إيران لم تلتزم بقرارات مجلس الأمن.
أمام طهران الكثير من المهمات والخطوات والمبادرات التي تستطيع اتخاذها والمناورة عليها لكنها كلها أصبحت الآن دفاعية. فالخيارات لم تعد بين الأفضل والأحسن، ولا بين الجيد والسيئ، وانما أصبحت المفاضلة بين السيئ والأسوأ. فالملف انتقل إلى مكان آخر والنقاش لم يعد يقتصر على الحقوق والضمانات والتقنيات. الملف تسيس وتعمل أميركا على تدويله حتى تكسب شرعية تعطيها فرصة لقيادة الحملة.
أوراق إيران أصبحت دفاعية الآن لكنها تستطيع استخدامها لتخفيف قوة الفقرات ومنع أميركا من استغلالها لحسابات إسرائيلية تتصل باستراتيجية تقويض «الشرق الأوسط»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1282 - الجمعة 10 مارس 2006م الموافق 09 صفر 1427هـ