لم يقدم «تقرير التنمية الإنسانية» الذي نُشر في 25 يناير/ كانون الثاني الماضي كشف حساب موضوعياً ومقارناًح للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمملكة المغربية خلال خمسين سنة من الاستقلال فحسب، لكنه حدد ما أسما 5 بـ «عُقد المستقبل» التي يمكن أن تعوق الإصلاحات والتقدم المرجوين.
عندما كلَّف الملك محمد السادس في مطلع العام 2004 مستشاره عبدالعزيز مزيان بلفقيه بالإشراف على إنجاز هذا التقرير، اكتفى يومها بالقول: «قوموا بعملكم». وعندما تسلم، بعد عامين الوثيقة النهائية المؤلفة من نحو 4000 صفحة شارك في إعدادها 75 خبيراً وباحثاً من اتجاهات مختلفة، فاجأ العاهل المغربي الحضور عندما أشار إلى مستشاره قائلاً: «انشروه كما هو»، مضيفاً «ليس لدينا ما نخفيه لا على الشعب المغربي ولا على المجموعة الدولية».
يشار في هذا السياق، إلى أنها وللمرة الأولى يتجرأ بلد عربي على خطوة من هذا النوع، يتم الاعتراف عبرها أولاً بنقاط الضعف والأخطاء ليتم الحديث بعدها عن التطور الحاصل خلال أربعين عاماً من الاستقلال. فالمشاركون في صوغ هذا التقرير من اقتصاديين، وعلماء اجتماع ومحللين سياسيين وأعضاء في جمعيات المجتمع المدني، لا يمكن لهم إلا أن يهتموا بإشكال النمو كأسنان المنشار، كذلك ببطء الإصلاحات.
فعلى صعيد التمعن في التطورات والمكاسب على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، يعرض التقرير صورة متكاملة عن حال المغرب منذ الاستقلال حتى نهاية العام 2005. فيطرح أسئلة كبيرة، كما يوضح، من دون مواربة، أبعاد التوجهات الصعبة التي ستلزم البلاد، ويحدد بالتالي ما أسماه «بعُقد المستقبل»، داعياً إلى اتخاذ القرارات الحاسمة بشأنها.
لقد توصل فريق العمل بقيادة «مزيان بلفقيه» إلى رؤيتين متناقضتين حيال التحولات الواجب اعتمادها، كذلك لناحية نجاح الإصلاحات التي تحتاج إليها المملكة. فبناء عليه، رُسمت الحدود الاستراتيجية والمحاور التي يمكن السير بها. وكان بنتيجة مجموع هذه الاقتراحات أن تم تشكيل قاعدة لوضع «أجندة 2005» التي يجب أن تكون ثمرة نقاش واسع بين مختلف الأطراف الاقتصادية والاجتماعية في المغرب.
إذا كان مغرب 2005 اعتبر من قبل المراقبين مجالاً لجميع التحولات، الديمقراطية والمؤسساتية، الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الثقافية، فإن الأعوام المقبلة ستضع، في المقابل، حداً للأداءات الاقتصادية المتذبذبة، وتعزز الإرادة بتسريع النمو بحيث لا يتأخر، كالعادة، في إعطاء ثماره. فنقاشات الأشهر الأخيرة بشأن الورشات الأبرز التي ستحدد أبعاد التحول الانتقالي الذي يشهده الاقتصاد المغربي، تدور اليوم في قمة النظام، بمعنى آخر، داخل القصر الملكي إذ يتم رسم السياسات الكبرى للبلاد. تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى المبادرات المتخذة التي تأخذ، على حين غرة، الحكومة الحالية، التي أثبتت مراراً عجزها عن مواكبة القرارات الملكية. ويشار هنا، إلى أن الملك محمد السادس، لم يتردد مطلقاً في الذهاب إلى قرى الشمال النائية والمنطقة الشرقية والجنوب حتى حدود الصحراء المغربية، كذلك إلى أعالي جبال الأطلسي، ليفتتح مدرسة ابتدائية أو مركزاً لمحو الأمية للنساء، هذا العائق الرئيسي الذي يعوق النمو الاقتصادي والاجتماعي منذ عدة عقود. ذلك، عدا مشروعات البنيات التحتية الهادفة إلى تعزيز النمو المتوازن.
بغض النظر عن هذه المبادرات، يجب الاعتراف بأن سلسلة من الخطوات والإصلاحات تمت على الصعد القضائية والإدارية والمالية على مستوى الأنظمة والتعليم في السنوات الخمس الماضية، بهدف تجاوز المعوقات الموجودة. ويتعلق الأمر الآن بتنسيق العمل على أرض الواقع عبر وضع الآليات موضع التنفيذ والتصدي للمشكلات التي لم تتم مقاربتها حتى الآن من خلال استراتيجيات فاعلة. عندها فقط، يمكن للمغرب أن يجذب بشكل أكبر الاستثمارات الخارجية، ما سيؤدي إلى إنشاء الشركات ويضاعف من حجم النشاطات ذات القيمة المضافة بحيث يتم إضعاف السوق السوداء التي تمثل حالياً ما نسبته 34 في المئة من ناتج الدخل القومي الإجمالي.
هكذا، تستطيع المملكة المغربية مواجهة انعكاسات الانفتاح الاقتصادي والاستفادة من الفرص التي يتيحها على أكمل وجه. فبالنسبة إلى الخبراء الذين شاركوا في أعمال الأبحاث والتحقيقات الميدانية في إطار التقرير المذكور الذي يحمل عنوان «المستقبل يُبنى والأفضل هو الممكن»، فإن الرهان الأساسي للنقلة النوعية على صعيد الإصلاحات لا يكمن فقط في خفض معدلات البطالة، لكن أيضاً احتواء الزيادة السكانية التي سجلت تقدماً بنسبة 14,6 في المئة بالمقارنة مع سنة 1994، بحسب التقرير الصادر في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2005 عن المجلس الأعلى للتخطيط، ذلك، عبر إيجاد فرص عمل للتدفقات الحاصلة في سوق العمل. في هذا السياق، يبقى التحدي الماثل مهمّاً جدّاً، وخصوصاً عندما نكتشف بأن التحول الديموغرافي والرهان الذي يخلفّه على صعيد فرص العمل، لايزال حتى الساعة غير قادر على التأقلم تماماً مع النمو الإنساني المستقبلي في البلاد. يجب على المغرب والحال هذه، أن يخلق 400 ألف فرصة عمل سنوياً في السنوات المقبلة بدلاً من الـ 200 ألف حالياً.
ورشات الأمل
إن بلداً مثل المغرب، لا يملك الغاز ولا النفط، والتي تربك فاتورته النفطية إدارات اقتصاده، يجب أن يجد ومن دون أي تأخير، بدائل لمصادر الثروة. فإذا كانت العائدات من تحويلات المغاربة العاملين في الخارج وصلت إلى حدود 40,5 مليار درهم (اليورو = 10,95 دراهم)، ومن الفوسفات، أقل بقليل، هي الأساس بالإضافة إلى تلك التي يوفرها القطاع السياحي والزراعة، إلا أن كلها تبقى مع ذلك غير كافية لإخراج مؤشرات الاقتصاد الكلي من الخطوط الحمراء. لذلك، عمد المغرب، بناء على توصيات من مليكه، إلى إطلاق الكثير من الورشات الكبرى في العامين الماضيين.
وتشكل مشروعات البنية التحتية، رأس الحربة، كونها تدخل الاقتصاد المغربي في تطور الاقتصاد العالمي. ويعتبر مشروع «طنجة - ميد» الهادف إلى توسيع مرفأ هذه المدينة التي تطلّ في آن معاً على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط الأمل الكبير بالنسبة إلى منطقة الشمال المهملة طوال قرون عدة، فلقد جذب المشروع بنهاية العام الماضي أكثر من 6 مليارات يورو على شكل استثمارات مباشرة من دول الخليج (الإمارات العربية المتحدة وقطر تحديداً)، وفرنسا وإسبانيا. في هذا الإطار، ينبغي التذكير بأن الهيئة العليا لمنطقة جبل علي وقعت اتفاقاً مع «هيئة السوق الحرة في طنجة» لإدارتها والإشراف على رصيف الحاويات. ويؤكد مديرو «طنجة - ميد» أنهم يتوقعون أن يصل حجم الاستثمارات الخارجية في 2006 إلى نحو 8 مليارات يورو.
وتبدي بعض المجموعات السعودية المختصة بالنقل البحري، والكويتية العاملة في مجال التأمينات، اهتماماً ملحوظاً لناحية الاستثمار في هذا المشروع. هذا الأخير الذي سينعش منطقة الشمال بكاملها وسيخلق عشرات الآلاف من فرص العمل.
من ناحية أخرى، تستعد بعض المصارف الأوروبية، الفرنسية والإسبانية وبعض المصارف الخليجية إلى فتح فروع لها داخل إطار طنجة - ميد. لكن المغرب يراهن أيضاً على اتفاق التبادل الحر الذي وقعه مع الولايات المتحدة الأميركية في العام الماضي لمضاعفة نشاطات هذا المشروع الكبير. وفي التوجه نفسه لتحديث البنيات التحتية، تعمد الحكومة المغربية إلى زيادة قدرات شبكته من الطرق السريعة التي بدأت تربط المناطق والمدن الكبرى ببعضها بعضاً.
وتلعب السياحة دوراً أساسياً في مشروع «مغرب 2025»، فالأشغال المرتبطة بالورشة التي أطلق عليها اسم «خطة أزور» الهادفة إلى جذب 10 ملايين سائح في العام 2010 وضعت على السكة. كما أن الاستراتيجية المخصصة لجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية في هذا المجال بدأت تعطي ثمارها. ذلك مع «الهجمة الاستثنائية» على مدن مثل مراكش والصويرة، إذ تضاعفت أسعار الأراضي والفيلات بمعدل ثلاث أو أربع مرات في أقل من ثلاث سنوات. فالأهداف المحددة ضمن «خطة أزور» تراهن على توسعة قطاع الفنادق والبنيات التحتية وزيادة فرص العمل. في هذا السياق، يشير وزير السياحة عادل ديوري إلى أن هذه الخطة، كمشروع طنجة - ميد، ستحقق أهدافها قبل التواريخ المحددة. ويستند المسئول المغربي في ذلك إلى العائدات التي فاقت الـ 41 مليار درهم في العام 2005، بزيادة 18 في المئة بالمقارنة مع 2004.
وتضع هذه الورشات الاقتصادية التي تضاف إليها أهداف التنمية للقرن الحالي، المتمثلة في ورشة إصلاح التعليم، ووضع نظام الضمان الاجتماعي الإلزامي موضع التنفيذ، كذلك برامج بناء المساكن الاجتماعية وإزالة مدن الصفيح التي تزنر المدن الكبرى، المغرب في سباق مع الوقت بحيث ستكون سنة 2006 سنة التحدي والفرز بامتياز
العدد 1281 - الخميس 09 مارس 2006م الموافق 08 صفر 1427هـ