في نهاية العام الماضي ابتاعت شركة «بروكتر وغامبل» Procter & Gamble شركة عملاقة أخرى هي جيليت Gillette، وقدرت قيمة هذه الأخيرة بنحو 57 مليار دولار. نتيجة هذه الصفقة هو تأسيس أكبر شركة عالمية للبضائع الاستهلاكية. ما هو الدافع وراء هذه الصفقة؟ وما الذي جعل شركة عملاقة ومنافسة في بعض منتجاتها مع جيليت مثل بروكتر وغامبل أن تقدم على خطوة جريئة مثل تلك التي أقدمت عليها، وتتحمل دفع المبلغ الضخم الذي وضعته على طاولة مفاوضات استغرقت ما يربو على العام قبل عقد الصفقة؟
قيم راقية
تمس منتجات شركة جيليت صلب حياة المستهلكين حول العالم، وتحتل هامشا مهما في سلوكهم اليومي. ففي صبيحة كل يوم هناك ما لايقل عن مليار شخص يتعاملون بشكل أو بآخر مع واحد من منتجات هذه الشركة العملاقة، ولكي تلبي جيليت احتياجات زبائنها المتوزعين في كل بقاع الأرض مستخدمين الكثير من منتجاتها، قامت ببناء 38 مصنعا تتوزع على 19 دولة تستخدم عددا لا يحصى من منافذ التوزيع والبيع التي تنتشر في ما يربو على 200 دولة ومنطقة.
وكي تلبي حاجة زبائنها، ترتكز الشركة على منصة قوامها 39 ألف موظف من كل الجنسيات، تشكل مهاراتهم وكفاءة أدائهم، وفوق ذلك كله ولاؤهم المطلق لجيليت العنصر الأهم في ثقة جيليت في نفسها كشركة قادرة على المنافسة وتطمح في الاحتفاظ بزبائنها، الأمر الذي يجعلها تؤمن لنفسها مستقبلا زاهرا في الأعوام المقبلة.
ولكي تحافظ جيليت على نجاحاتها تؤكد الشركة، كما جاء في موقعها على الإنترنت، أنها تتمسك بمجموعة من القيم والمثل، من بين أهمها:
1 علاقات إنسانية متطورة تمكنها من استقطاب وتحفيز والاحتفاظ بموظفين يمتلكون كفاءة عالية في الأداء في كل دوائر الأعمال التي تنشط فيها جيليت، وملتزمين بقوانين الولاء القائمة على قبول تحدي المنافسة من جهة، ونيل مكافآت حسن الأداء من جهة ثانية. يضاف إلى كل ذلك الفوائد والتدريب وتنمية الموارد البشرية للشركة من خلال نظام عادل يرتكز على إتاحة الفرص وفقا للمهارات الذاتية والرغبة في العطاء والقدرة على الأداء.
2 اهتمام متزايد بالزبائن من خلال الاستثمار في والبراعة في استخدام تقنيات تحقق النجاح لكل فئة من فئات الإنتاج. إذ تحرص جيليت على أن تتوافر في بضائعها الاستهلاكية أعلى مستويات الأداء لقاء أقيامها. ويترافق ذلك مع التزام بتقديم خدمات راقية لزبائنها من خلال التعامل معهم كشركاء بدلا من اعتبارهم شراة فقط.
3 مواطنة صالحة من خلال التقيد بالقوانين والأنظمة المعمول بها في البلدان التي تنشط فيها جيليت، ناهيك عن مساهمتها في الأعمال الخيرية في تلك البلدان.
جيليت... بائع الخردة المتجول
لكن من كان يتوقع أن كينغ كامب جيليت بائع الخردة المتجول سيحقق كل هذه الثراء. لقد كان كينغ رجلاً صبوراً جداً ولد في العام 1855م ونشأ في شيكاغو، وكانت عائلة جيليت على موعد مع كارثة مروعة، ففي العام 1871م شب حريق هائل في شيكاغو وأتى على كل ما تملكه العائلة من متاع الحياة، ما اضطرها إلى الانتقال إلى نيويورك، حيث تعلم كينغ جيليت تجارة البضائع المعدنية والحديدية والخردة.
عندما بلغ كينغ جيليت الـ 21 عاماً كان قد اصبح بائعاً جيداً ومتمرساً، لكنه لم يكن مجرد بائع، ولأنه محب للابتكار كان يقوم بتلحيم المواد المعدنية وتطوريها ما جعله ينال براءات اختراع كثيرة لابتكارات بسيطة.
وفي صباح يوم من العام 1895م وبينما كان جيليت البائع المتجول والبالغ من العمر 40 عاماً يهم بحلاقة ذقنه، وكانت حينها أمراً مضنياً ومرهقاً لملايين الرجال، وخصوصاً أنها تتم عن طريق موس طوله 3 بوصات وتشكل خطراً على جلد الوجه والذقن، يقول جيليت راودتني فكرة تغيير جذري على شفرات الحلاقة، فكل الاختراعات كانت حينها تصب في خانة تحسين الموس وليس تغييرها كلياً. لمعت في رأسي فكرة أنه يجب ابتكار شفرة حلاقة رخيصة الثمن وسهلة الاستعمال وتوفر على الناس الذهاب إلى الحلاق. لكن ليس بهذه السهولة يتم تغيير نظرة الناس إلى هذا الأمر. وكانت أسئلة الناس مبنية على سؤال مهم: «كيف ببائع متجول عمره 46 سنة واسمه كينغ كامب جيليت يدعي أن شفرات الحلاقة يجب أن تكون من الحديد الشفاف والزهيد الثمن وترمى بعد استعمالها مرتين أو ثلاث مرات». كان رد فعل الحلاقين والحدادين سلبياً كثيراً.
أسس جيليت شركة لهذا الغرض، وبدأت الشركة عمليات بيع شفراتها للحلاقة في العام 1903م، وكان عمر جيليت حينها 48 سنة. كانت السنة الأولى فشلاً ذريعاً، إذ لم تتعدَ مبيعات الشركة في السنة الأولى 51 آلة حلاقة و168 شفرة، ولكن على رغم تلك الخسائر فإنه لم يفقد جيليت ثقته بنفسه ولا تفاؤله، بل اعتبر كل ذلك خطوة مهمة للمستقبل.
وحققت مبيعات جيليت مع نهاية العام 1904م قفزة نوعية. فارتفعت المبيعات إلى 9000 أداة حلاقة و12,4 مليون شفرة واستمرت الشركة في التقدم بخطى ثابتة، ولعبت استناداً إلى خطط تسويقية مدروسة وتوسعت وافتتحت لها فروعاً في لندن العام 1905م، وباعت شركة جيليت 3,5 ملايين أداة حلاقة مع شفراتها خلال الحرب العالمية الأولى للحكومة الأميركية فقط.
بدأت أفكار جيليت تؤتي ثمارها، وأصبحت شفرات الحلاقة من أشهر السلع التي تباع، وبدأت الشركة باستراتيجية رعاية البرامج الرياضية وكان ذلك في العام 1930م واستمرت الدعاية بنشر منتج زهيد الثمن كثير الفعالية.
توفي كينغ كامب جيليت ولكن حلمه لم ينته وتابعت شركة جيليت التوسع والانتشار، وأصبحت شركة جيليت الآن من أكبر الشركات في العالم ولا تبيع الشفرات فقط إنما الكثير من السلع المشهورة منها على سبيل المثال لا الحصر: شفراتSensor Trac II ، بطارياDuracell ، فرشاة الأسنانOral B ، شامبوWhite Rain ، أقلامParker ، الأدوات الكهربائية Braun وغيرها الكثير.
ومنذ العشرينات بدأت الشركة في تحقيق قفزاتها الحقيقية التي أوصلتها إلى ما هي عليه الآن. دلل على ذلك مقارنة أجرتها مجلة «التايم» الأميركية في عددها الصادر بتاريخ 2 مارس/ آذار 1925، إذ جاء فيها «أن شركة جيليت لأمواس الحلاقة قد حققت خلال العام 1924 أرباحا صافية مقدارها 10,122,473 دولارا أميركيا، مقارنة بـ 2,427,174 في العام 1915. حينها كانت مبيعات جيليت 8,438,576 دولاراً في العام 1924 مقابل 5,928,117 في العام 1915».
رود تايلور - أحد المتابعين لحركة أسواق الأسهم - يحاول أن يرسم صورة كاريكاتورية لما لجيليت اليوم بعد إتمام صفقة شركة بروكتر وغامبل بقوله: «لو ان أحد أجداده فكر في شراء أسهم في شركة جيليت عند تأسيسها في العام 1903، وهو ما لم يحصل، لبلغت قيمة السهم الذي بيع حينها بدولارين أميركيين ما يربو على 1,4 مليون دولار اليوم».
كل ما ذكر كان من أفكار بائع متجول، كان دائم البحث عن شيء متميز يرفعه إلى مصاف المشاهير. لكن لو يئس كينغ جيليت عندما سخر منه الجميع لما أصبح الآن اسمه محفوراً على كل أداة حلاقة نشتريها.
كان ذلك تاريخ جيليت وعلى رغم أهميته فإن الأهم منه هو حال الشركة ومستقبلها المالي والتجاري بعد إتمام الصفقة؟ هذا ما ستعالجه الحلقة الثانية من المقال.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1281 - الخميس 09 مارس 2006م الموافق 08 صفر 1427هـ