لِمَ يبدأ التاريخ المعاصر من أوروبا؟المفاجأة كانت أميركا. لماذا بدأ من هناك؟ وكيف انطلق التحول؟
القصة في أساسها متصلة بأوروبا وتحديداً ذاك الصراع الفرنسي - البريطاني والتنافس على زعامة القارة وقيادة العالم. فالصراع امتد وانتقل من أوروبا إلى أميركا. وهناك تطور التنافس ليؤسس دولة جديدة مستقلة سيكون لها شأنها الكبير في التاريخ.
هذه الدولة الجديدة غريبة من نوعها. فهي تشكلت من مهاجرين زحفوا إليها من أوروبا. وبسبب هذا النوع من التكوين التاريخي تأسست الدولة قبل المجتمع وأسهمت في ترسيم هويته من خلال دمج المجموعات المهاجرة في المؤسسات، الأمر الذي فرض البحث عن صيغة قانونية لضبط العلاقات.
هيغل لاحظ هذا الأمر باكراً حين تحدث عن دور مميز للدين في تشكيل الدولة الأميركية وتوقع في كتابه عن «فلسفة التاريخ» أن يكون للمسيحية الزاحفة مع المهاجرين دورها في التأثير على هوية الدولة وسياساتها.
كذلك لاحظ توكفيل في كتابه عن «الديمقراطية في أميركا» أن الديمقراطية في هذه الدولة الوليدة تختلف تكوينياً عن تلك الديمقراطية الموجودة في أوروبا. فالديمقراطية الأميركية ممارسة اجتماعية وليست مجرد نظرية فكرية.
هذا الاختلاف على مستوى دور الدين وهوية الديمقراطية وتعريفها السياسي يعود إلى اختلاف الاجتماع البشري والنمط التركيبي الذي تألف منه العمران وما انتجه من حاجات خاصة تتصل بالمعرفة.
الدولة في أميركا دولة مهاجرين (مستعمرات ومستوطنات) وبالتالي لعبت المؤسسات من البداية دور الرابط والناظم لمصالح الجماعات الأهلية الزاحفة من أوروبا. وهذا الزحف الاستيطاني يشبه كثيراً حال انتقال البدو من مكان إلى آخر بحثاً عن الماء والكلأ. والفارق التاريخي أن البداوة الأوروبية كانت حديثة ومعاصرة (نمط رأسمالي جديد) وحصلت لدوافع البحث عن الثروة (الذهب) تؤسس لمستقبل مستقر تقوم قواعده على تصورات ذهنية (معرفة) مستوردة وجاهزة من الخارج.
لم يتطور المجتمع الأميركي وانما انتقل بكامله من مكان إلى آخر حاملاً معه مجموعة أفكار تتسم بالنقاوة (التطهر) الدينية والاحلام السعيدة وبناء وطن مختلف وبعيد عن مشكلات القارة الأوروبية (القديمة نسبياً). أميركيا لم تتطور تقليدياً وتمر في سياقات تاريخية متشابهة مع مجتمعات موغلة في القدم. فهذه الدولة قفزت إلى التاريخ وانتقلت مباشرة إلى الرأسمالية الاستيطانية وانتشرت من الرأس (الدولة) إلى الجماعات النازحة. ولذلك بدأت الدولة الجديدة من فوق (المؤسسات) وليس من تحت (المجتمع). وروح المؤسسات الدستورية تكفلت في صوغ هوية جديدة للجماعات المتنوعة الاشكال والألوان محاولة دمجها في إطار الولاء للدولة.
الدولة في أميركا قادت المجتمع والمجتمع ولد منها وفق تصورات دستورية حددت شخصية الناس وضبطت علاقاتهم الاجتماعية وفق صيغ قانونية كان لها تأثيرها القوي في تكوين ثقافة جديدة استهوت لاحقاً الكثير من التيارات الأوروبية.
حين اندلعت ثورة الاستقلال في أميركا كانت الدولة الجديدة تتألف من 13 ولاية فقط تقع كلها في الجانب الشرقي من الولايات المتحدة أو الضفة الغربية من المحيط الأطلسي. ومن هذه الولايات سيولد وحش رأسمالي جديد ليؤسس دولة توسعية في مجالها الحيوي الجغرافي تمددت بسرعة إلى أن بسطت نفوذها على الجانب الغربي من الولايات. وهذا النمو جاء في سياق تصادمي مع أهل البلاد (اقتلاع الهنود الحمر) ومع مصالح دول أوروبا التي اخذت تتراجع أمام هجوم الرأسمالية الجديدة.
بدأت أميركا إذاً من الدولة (رأس الهرم) وانتقلت تاريخياً إلى المجتمع (قاعدة الهرم). وهذا يعاكس تاريخ نشوء الدولة في أوروبا. فالأخيرة تأسست في سياق تطور العمران وتقدمه المعرفي. ولذلك جاء الدستور رداً على حاجة ولم يكن الدستور هو المؤسس لهوية المجتمع كما هو حال أميركا. في أوروبا هوية المجتمع حددت إطار شخصية الدولة وروح الدستور (الشرائع). بينما في أميركا الدولة هي التي حددت هوية المجتمع.
النموذج الأميركي كان جديداً على التاريخ الأوروبي وفرضته مستلزمات التأسيس الحديثة لدولة مهاجرين (جماعات نازحة أو راحلة) تألفت عناصرها البشرية الأولى من هيئات ومنظمات متدينة أو عصابات تطمح إلى الثروة استخدمت تلك الأفكار التطهرية التي شاءت البدء من «الصفر».
البدء من الصفر بدأ في نهاية القرن الخامس عشر (اكتشاف كولومبوس للقارة الجديدة) ونما «الصفر» بسرعة وتحول إلى رقم حقيقي في مطلع القرن الثامن عشر. هذا النمو السريع لتلك القوة الجديدة خلق تحديات للرأسمالية الأوروبية (القديمة نسبياً) واثار مشكلات بين دولها التي تنافست على كسب ثروات هذه السوق الضخمة.
كانت بريطانيا آنذاك هي القوة البحرية الأولى في العالم وفي حال تنافس مع فرنسا على قيادة القارة. وبسبب النزاع الفرنسي - البريطاني استفاد الوليد الجديد من دعم فرنسا لمواجهة ما اسماه الاستعمار البريطاني. بريطانيا كانت تعتبر أميركا ولاية تابعة لها وتتعامل معها باعتبارها مصدراً للرزق والثروة تقع في دائرة مجالها الحيوي ومنطقة نفوذها وراء المحيطات. وفرنسا اعتبرت أميركا مركز القوة لبريطانيا ونقطة الضعف في الآن، لذلك تركزت سياستها على أن كسر قوة بريطانيا في أوروبا والعالم يبدأ من خلال ضرب نفوذها في العالم الجديد.
تحت سقف الصراع الأوروبي - الأوروبي يمكن فهم أو تفسير ظاهرة حركة الاستقلال التي قادها جورج واشنطن في العام 1775 (1189هـ). بدأت حرب الاستقلال بسبب اختلاف المصالح بين الدولة (الأم) والمستعمرة (الابن). فالابن تشكلت لديه شخصية خاصة اخذت تضغط نحو الانفصال عن قوة قديمة تفرض شروطها وفق مراسيم تلبي مصالح بريطانيا ولا تأخذ في الاعتبار قدرات أو رغبات القوة الجديدة. مثلاً كان من حق الحاكم البريطاني ان ينقض كل القوانين التي تصدر عن الجمعية التشريعية في المستعمرة. وكان من حق الحاكم منع الولايات الأميركية من تصنيع المواد والسلع التي تنافس المنتوجات البريطانية. كذلك كان الحاكم البريطاني يفرض الضرائب ويطلب من الولايات تمويل حروب دولته وتأمين تسهيلات لجيوشها. وكان أيضاً يمنع تلك الولايات من شراء الأراضي أو اقامة مستعمرات جديدة في مناطق الهنود الحمر من دون العودة إلى الحاكم.
شكلت كل هذه التراكمات حساسيات بين قوة اقتصادية نامية تتمتع بمواصفات خاصة ومصالح مستقلة لا تنسجم مع هيمنة المستعمر البريطاني، وبين مصالح دولة عظمى تعتمد على مستعمرات لرفد موازنتها بالمال. فالثورة لم تحصل لأسباب عقائدية وإنما جاءت تجاوباً مع مصالح كتلة اقتصادية طامحة للنمو والتوسع في مجالها الجغرافي. وبسبب تعارض المصالح وجدت الكتلة الجديدة أن نظام العلاقات الذي تفرضه بريطانيا لم يعد يناسبها وهذا ما أدى إلى نمو نزعة تطالب بالانفصال (الاستقلال).
اندلاع الثورة
بدأت الثورة بشرارات بسيطة بسبب رفض الناس شراء طوابع (رسوم) تفرض على المستعمرات للمساهمة في تمويل نفقات الجيوش البريطانية. وانضم التجار إلى حركة التمرد تلك وقرروا مقاطعة البضائع البريطانية إذا لم تبادر هيئتهم التشريعية (مجلس البرلمان) إلى إلغاء ذاك الطابع. فألغي الطابع.
بعد ذلك حاول وزير الخزانة البريطاني فرض ضرائب على الرصاص والاصباغ والورق والشاي فأثار اضرابات ادت إلى إلغاء الضرائب واستثنى الشاي منها. وحصلت ثورة ضد قانون الشاي. وهكذا اخذت الشرارة تمتد وتنتقل وبدأت الولايات تتحرك نحو التكتل في محاولة منها للانفصال عن بريطانيا بعد أن اخذ التجار يحرضون الناس على رفض الخضوع لتلك القوانين القسرية التي تفرضها دولة أجنبية على البلاد. وبسبب نمو نزعة الاستقلال التجارية عن بريطانيا تشجع الكثير من أعضاء الكونغرس الأميركي الذي يمثل مصالح الولايات إلى اتخاذ قرارات وطنية ترفض الاستجابة لشروط تلك القوانين القسرية.
وهكذا تجمعت تلك السحب من كل الاتجاهات وتكثفت في فضاء كان من الصعب عليه تحمل أكثر من قوة واحدة. فانفجرت الحرب الأميركية - البريطانية وامتدت إلى الولايات واستمرت من العام 1775 إلى العام 1783 (1197هـ).
انتهت حرب الاستقلال الأميركية بعد ثماني سنوات بسقوط أكثر من 45 ألفاً من القتلى بين الجانبين. وبسبب صعوبة المعارك التي استنزفت الخزانة البريطانية اضطرت حكومة لندن إلى الموافقة على التنازل عن مستعمراتها (13 ولاية) في العالم الجديد.
اعتبرت فرنسا آنذاك أنها انتصرت في معركتها على بريطانيا ولكنها اكتشفت لاحقاً أن حرب الاستقلال التي جرت بتمويل فرنسي ودعم عسكري مباشر، اسهمت أيضاً في كسر موازنتها وارهاق خزينتها بالديون.
شاءت فرنسا أن تنهي الحرب في ديارها فاقترحت على الطرفين اجراء المفاوضات في عاصمتها. وهذا ما حصل حين وقعت «معاهدة باريس» في العام 1783 اعترفت بريطانيا بموجبها باستقلال «الولايات المتحدة».
هذا الاستقلال ستكون تداعياته وتبعاته كثيرة سواء على مستوى الداخل الأميركي (إعلان الدستور واجتياح مناطق الهنود الحمر) أو على المستوى العالمي (انهيار اقتصادات الدول الأوروبية) وتشجيع النخبة الفرنسية على الثورة.
الآن أصبحت أميركا دولة مستقلة. وهذا التطور السياسي فرض على قادة ثورة الاستقلال البحث عن صيغة دستورية تضبط العلاقات الأهلية وتضمن التوازنات بين السلطات حتى لا تنقلب المسألة وتبدأ الولايات حروبها الخاصة للتنافس على السوق الداخلية أو تزعم الدولة واخذها إلى مجالات تخدم حفنة من الملاك والتجار.
هذه المخاوف شكلت قوة ضغط على اعضاء الكونغرس. فالكونغرس الآن اختلفت وظيفته وبات في موقع يقود الدولة ويصون مصالحها ويشرّع دورها ويضبط علاقات الولايات بين بعضها بعضاً. سابقاً كان دوره اضعف ويخضع لسلطة أعلى تتلقى التوجيهات من الحاكم البريطاني الذي ينفذ سياسة دولته. شكل هذا التطور الجديد نقطة تحول اسهمت في تأسيس وعي فرضته حاجات الاستقلال على اعضاء الكونغرس. فالاستقلال مضى عليه الآن أربع سنوات والثورة التي انتزعت الاستقلال مضى عليها 12
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1281 - الخميس 09 مارس 2006م الموافق 08 صفر 1427هـ