لم يعد خافياً على أحد أن الإدارة الأميركية، تمارس على الدول العربية ضغوطاً هائلة، في اتجاهات مختلفة، ولأسباب متعددة، وإن ظهر الأمر في النهاية أن هذه الضغوط لا تعبر عن مؤشرات قوة وشراسة، كتلك التي كانت قبل سنوات، وإنما في اعتقادي تعبر عن ظواهر تراجع وضعف! لم يعد خافياً أيضاً أن الدبلوماسية الأميركية، نشطت في الفترة الأخيرة، بتحركات عاجلة واتصالات متنوعة، استباقا لمناسبة عربية مهمة، هي عقد القمة العربية في الخرطوم بنهاية هذا الشهر، وهي مناسبة تريد واشنطن استغلالها وتوظيفها لخدمة مصالحها وللمساعدة في تنفيذ مشروعاتها.

لم يعد خافياً كذلك أن الولايات المتحدة الأميركية - القوة الأعظم المنفردة بقيادة العالم - أصبحت اليوم في حاجة ماسة، لغطاء عربي ما، يغطي سياساتها المتدهورة وخيباتها المتتابعة. منذ أن غرست بأقدامها الثقيلة في غزو واحتلال العراق ابتداء من مارس / آذار 2003، وربما كانت الجولة الأخيرة لوزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس ، في أكثر من دولة عربية مهمة، حملت بصراحة الرغبة في توفير هذا الغطاء العربي المهم، ومن ثم ألحت وضغطت وربما هددت بالويل والثبور، لأن المآزق الصعبة تتوالى على الإدارة الأميركية. بدرجة لم تعد تحتمل معها أي تساهل!!

وقبل أن ندخل في الضغوط والمطالبات من القمة العربية المنتظرة قريبا، نقول إن الإدارة الأميركية، برئاسة بوش الابن، عانت على مدى العام الماضي، مصاعب استراتيجية تكاد تشبه الصدمات القاسية، الأمر الذي زرع قنابل متفجرة في عربة السياسة الأميركية بالشرق الأوسط، وهو أمر ممتد بالضرورة وبكل التداعيات إلى العام الجاري، الذي لن يكون أفضل من سابقه...

نستطيع أن نرصد هنا خمس مفاجآت صادمة، أو صدمات مفاجئة، أصابت السياسة الأميركية بارتباك شديد، وهي:

1- جاءت الصدمة الإيرانية في المقدمة، إذ إن نجاح الرئيس أحمدي نجاد، قلب المشهد الإيراني بقوة في اتجاهين رئيسيين، أولهما استعادة طهران لهجة ومنهاج وصوت «الثورة الإيرانية الخمينية» بكل عنفوان خطابها السياسي، بما في ذلك العودة إلى فكرة تصدير الثورة إلى دول الجوار. وثانيهما تسخين الملف النووي الإيراني، منتقلا من مرحلة التفاوض الدولي بشأنه، في عهد الرئيس السابق والمعتدل محمد خاتمي، إلى مرحلة المواجهة باقتحام خطوة تخصيب اليورانيوم تجاوزاً للتفاوض والتهديد الدولي، وفي الحالين أثارت إيران قلقا شديداً وصخباً عنيفاً، ليس فقط في دول الجوار، ولكن لدى أميركا وأوروبا، على غير ما كان متوقعاً من قبل!

2- كانت الصدمة أو المفاجأة الثانية، هي بدء الصعود الملحوظ للتيارات الإسلامية، نحو قمة السلطة، وجاء فوز حماس «بأنظف انتخابات عربية» على حد الوصف الأميركي نفسه، ليصدم السياسية الأميركية والإسرائيلية بعنف، وليخلق أوضاعا سياسية جديدة، من ناحية، وليدفع ويشجع قيادات إسلامية أخرى في دول عربية عدة على محاولة تكرار التجربة «الديمقراطية» من ناحية ثانية، ما أثار اشد القلق في كل مكان.

3- ثم كانت الصدمة أو المفاجأة الثالثة، بانقلاب المشهد العراقي رأساً على عقب، وصولا إلى ما يشبه الحرب الأهلية الطائفية، ولم تفلح «الانتخابات الديمقراطية» في يناير / كانون الثاني الماضي، في توفير غطاء عراقي، لانسحاب أميركي منظم في المرحلة الحالية على الأقل، ما زاد المأزق الأميركي تعقيداً.

4- أما الصدمة الرابعة، فتمثلت في تباطؤ عربي عام في الإصلاح الديمقراطي، على رغم كل الضغوط الأميركية والإغراءات الأوروبية، وعلى رغم المطالب الداخلية أيضاً... إذ يبدو أن النظم العربية اكتشفت أن كل هذه الضغوط والإغراءات ليست إلا لإبراء الذمة، وما هي إلا عاصفة مؤقتة سرعان ما تنقشع، الأمر الذي أحبط المشروع الإصلاحي الاميركي، الذي طالما تغنى به الرئيس بوش وعصابة المحافظين الجدد من حوله!

5- الصدمة الخامسة هي الأشرس في رد فعلها، وجاءت من الشارع العربي في كل المدن والعواصم، تلك الغاضبة المتمردة الرافضة، التي زادت درجة الكراهية المعلنة للسياسات الأميركية في كل اتجاه، على رغم كل الجهود الأميركية في تحسين الوجه الأميركي وتلميعه بما تم استحداثه من أدوات التجميل، التي سرعان ما اختفت وتلاشت مع هبوب الرياح!

لقد مثلت هذه المفاجآت والصدمات، إحباطاً شديداً لسياسات الرئيس بوش، على رغم كل أحاديثه هو وإدارته، عن استراتيجيات اقتحام العالم العربي والإسلامي، ومحاصرة محور الشر وبؤر الإرهاب وإعادة ترتيب هذه المنطقة من العالم، لتتوافق وتتسق مع الأهداف الحيوية والاستراتيجية الكونية للدولة العظمى الوحيدة...

والمؤكد أن هذه الاحباطات والصدمات، ستنعكس بالسلب على الأوضاع الأميركية الداخلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وخصوصاً أن الإدارة كانت تريد توظيف سياستها الخارجية، باعتبارها أحد الأسلحة في خوض معركة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس هذا العام، التي تبغي من ورائها قبضة الحزب الجمهوري على مجلس النواب والشيوخ، لكن يبدو أن هذه الآمال أصبحت موضع سؤال عصيب!

ومن الواضح أن الإدارة الأميركية تسابق الزمن، قبل هذه الانتخابات والاختبارات الداخلية، لتحسين أوضاع سياساتها الخارجية، والخروج بها من مستنقع الصدمات والاحباطات الكثيرة، هنا يدخل مؤتمر القمة العربية الذي سينعقد في الخرطوم، لاعباً مهمًّا في مجال إعادة ترتيب الأوضاع العربية الملتهبة، كما تتصور الإدارة الأميركية المأزومة...

ولم يعد سراً أن هذه الإدارة قاتلت، وستظل تقاتل إلى آخر لحظة، من أجل عرقلة عقد القمة العربية في الخرطوم تحديداً، لقد مارست الضغوط المختلفة لحرمان السودان من استضافة هذه القمة ومن رئاستها لمدة عام كامل من مارس 2006 إلى مارس 2007، بما يعطي الحكومة السودانية وضعاً مميزاً في الإطارين الإقليمي والدولي، وقد كانت واشنطن تأمل في تحقيق هذه الخطوة، كما سبق لها أن حرمت السودان من رئاسة قمة الاتحاد الإفريقي قبل أسابيع، فإن لم تفلح في تحقيق ذلك، فعلى الأقل تشوش عليه...

وفي المقابل لم يعد سراً أن الإدارة الأميركية تضغط بقوة، وهي في طريقها إلى النجاح، لإرسال قوات دولية تحت قيادة الأمم المتحدة، إلى إقليم دار فور السوداني، بديلاً للقوات الإفريقية، باعتباره مرحلة متقدمة من مراحل تدويل أزمة هذا الإقليم، المطموع في ثرواته النفطية والمعدنية والزراعية والرعوية، والمطلب الأميركي المحدد هو تحمل الدول العربية العبء الأكبر من تجهيز هذه القوة الدولية، بالرجال والأموال، تحت القيادة الدولية شكلا والأميركية مضموناً...

أميركا تريد غطاء عربياً واضحاً في هذا الموضوع، على عكس إدارة السودان، مصر وليبيا مثلاً، لكنها تضغط من أجل توفيره من خلال موافقة القمة العربية، مثلما تريد على النقيض، رفع الغطاء العربي عن دعم حركة حماس التي فازت في الانتخابات الفلسطينية، الأمر الذي أربك السياسة الأميركية والإسرائيلية، بل وبعض السياسات العربية أيضاً... وأظن أن جهوداً أميركية هائلة بذلت ومازالت تبذل للضغط على الحكومات العربية، لوقف الدعم السياسي والمالي لحماس، بالموازاة مع وقف المساعدات الأميركية والأوروبية، حتى تسقط حكومة حماس خلال شهور على الأكثر كما يتصورون!

والمطالب الأميركية من القمة العربية، تمتد بالضرورة إلى محاصرة إيران وزيادة بل تركيز وتكثيف الضغوط الأميركية والأوروبية والعربية عليها، لعرقلة تقدمها العنيد في تخصيب اليورانيوم واستكمال برنامجها النووي، وسط حملة سياسية وإعلامية هائلة لتخويف الدول العربية من هذا البرنامج الإيراني، من دون ذكر كلمة واحدة عن السلاح الإسرائيلي بكل ترسانته النووية الرهيبة، الذي هو الخطر الحقيقي على المنطقة، بل على السلام العالمي!

وعلى رغم مناوشة أميريكا للقمة العربية بالأزمة السورية اللبنانية من ناحية، وبالإصلاح الديمقراطي وضروراته من ناحية أخرى، فإن همها الأول ومطلبها الرئيسي من القمة العربية الوشيكة، هو توفير الغطاء العربي، وربما الإسلامي، للأوضاع المتطورة، والمتدهورة في العراق، بعد ثلاث سنوات من الاحتلال بل التورط الأميركي هناك...

والغطاء العربي المطلوب الآن وغدا، يتمثل في وضع الترتيبات الضرورية، لإرسال قوات عربية وإسلامية إلى العراق، لتحل محل القوات الأميركية من حيث الشكل، وخصوصاً في المدن والمناطق السكانية، لتتحمل هي عبء المواجهة الدموية مع العراقيين وتتحصن القوات الأميركية، في قواعدها الرئيسية في مناطق محددة، بعدما انتهت من تجهيز أكثر من عشر قواعد منها حتى الآن.

وطبعاً تتصور الإدارة الأميركية، أن الغطاء العربي هذا، يوفر لها الانسحاب من المستنقع العراقي بما يحفظ لها الهيبة والكرامة، التي تعرضت للمهانة والاستنزاف هناك على مدى السنوات الماضية، وبما يسمح للاستراتيجية الأميركية تحقيق أهدافها، أولا في السيطرة المطلقة على النفط العراقي لوفير، وعلى الموقع الاستراتيجي. وثانيا في زرع شوكة قوية في ظهر إيران، التي كانت زرعت شوكة أخرى، في ظهر الاحتلال الأميركي للعراق فأدمته بقوة واضحة. وتستطيع أن تفعل ما هو أكثر لأسباب معروفة جيدا...

ربما يرى البعض أن هذه المطالب الأميركية، من القمة العربية، كثيرة وعجيبة وربما مستحيلة وغير معقولة. وقد يعتقد البعض الآخر أنها مطالب «وهمية» مبنية على تحليلات واستنتاجات من جانبنا، لكن الحقيقة، أن هذه المطالب الأميركية جزء من وقوائم طويلة ومتجددة، وهي مطالب حقيقية، مبنية على معلومات، يفصح عنها في هذه العاصمة العربية أو تلك، وقد تظل طي الكتمان، حتى تنفجر في وجوه الجميع، لحظة سطوع الحقيقة...

وسطوع الحقيقة، هو أكثر ما يغيظ الضغوط الخفية ويفضح الابتزازات السرية، جنباً إلى جنب مع هوية الإخفاء والتمويه والتعمية، التي تقابل بها دولنا مثل هذه الضغوط، التي لا تعرف الرحمة!

وعلى رغم ذلك يبقى السؤال: إلى أي مدى تستطيع القمة العربية المقبلة، الاستجابة للمطالب الأميركية، أو الهروب منها، وكيف ستتحمل المسئولية التاريخية في الحالين!

خير