في العام 1939، نشرت جريدة البحرين رسالة مطولة لإحدى الطالبات تعبر فيها عن سعادتها بالتعليم، إذ قالت: «ما أسعدني وأبهى مستقبلي، وأنا أكتب، وأنا أقرأ، وأنا أرتل القرآن وأنشد الأناشيد... ما أبدع الإبرة في يدي... أين أنا من هؤلاء الفتيات اللاتي أعبر بهن وأنا عائدة من المدرسة فأرثي لهن وأتألم لجهلهن وعدم نظافتهن، بل أين أنا من أمي ومن زائرات أمي وجارات أمي لم يتمتعن بتعاليم المدارس».
يعتبر هذا الخطاب أول خطاب نسائي مكتوب للمرأة البحرينية مع انطلاقة حركة التعليم في التاريخ المعاصر، ومع مرور ما يقارب ستين عاماً على الخطاب، لايزال خطابنا نحن النساء البحرينيات بكل تياراتنا كما هو وليد اللحظة والعاطفة بطيئاً وغير متكافئ. فما هو السبب؟ وهل عجزنا عن تقديم أنموذج يمثلنا بحق؟
إن الخطاب النسائي سواء في العالم العربي أو الغربي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا الأمة القومية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغالباً ما كان يعتمد على نظريات ومحاور عقائدية أو فكرية مبنية على دعائم دينية أو آراء لفلاسفة وعلماء أو قيادات سياسية لا تخرج جميعها عن إطار سلطة أبوية. وكما في الدول العربية، سيطر الخطاب الليبرالي على الساحة النسائية البحرينية في الخمسينات والستينات. وما يميز هذا الخطاب انه خطاب جريء ومغامر وأكثر استقلالية، لكن ما يؤخذ عليه انه خطاب متغرب برمته، إذ كان التراث الغربي عاملاً مهماً في توجيهه. فالمرأة في الغرب بدأت من تراث يزدري المرأة، إذ يعتبر القانون الإنجليزي التاريخي المرأة ملكاً للرجل، بينما يشير المثل الفرنسي إلى أن «المرأة الجيدة تعني الخادمة الجيدة»، أما الروسي فينص على ان الزوجة الجـيدة تكون سـيدة أكثر كلما كانت أكثر عبودية للرجل! ومن هذا الموروث السيئ للمرأة بدا النضال الغربي من خلال التجمعات النسائية منذ نهاية القرن الثامن عشر، عندما قامت ٌٌٌُّ ٌّْفح بنشر كتابها «الدفاع عن حقوق المرأة» في العام 1792، واستمرت هذه المطالبات حتى النصف الأول من القرن العشرين. وكانت المرأة تسعى إلى تحقيق المساواة مع الرجل في الحياة العامة، والدخول في معترك السياسة واتخاذ القرار، والمطالبة بسن قوانين تكفل حقوقها كاملة في مؤسسة الزواج، ومن هذا المنطلق تحرك الخطاب النسائي الليبرالي البحريني، إذ أسقط قضايا المرأة الغربية على الساحة المحلية وأصبح خطابه يدور حول قضايا لم يتجاوزها بعد، إذ لايزال الحديث ساخناً في أروقتهن عن الهيمنة الذكورية والعنف ضد المرأة، بل تمادى هذا الخطاب ليطول القضايا الشرعية من تعدد الزوجات، والإرث، وحق الطلاق.
وبينما نرى الخطاب النسائي الغربي تعدى هذا الخطاب وأصبح الآن أكثر خصباً، إذ تميز بالتضامن المعنوي مع المرأة انطلاقاً من وحدة الجنس والتشابه والإحساس بالقضايا المشتركة، فلذلك بدأ خطابهن في هذه الفترة منصباً على الدراسات والنظريات النفسية والاجتماعية المرتبطة بالمرأة. وللأسف لم يخرج الخطاب الليبرالي النسائي البحريني عن إطار الصورة الأولى التي رسمها له والمتمثلة في المرأة المشاكسة، ما جعله خطاب نخبة وليس خطاباً جماهيرياً منطلقاً من القاعدة، فهو لا يحارب الرجل فحسب بل أصبح خصماً للمرأة الأخرى الخارجة عن دائرة نطاقه. كما انه لم يوفق بين ما هو وطني ونسوي، فانساق وراء تأييد المرأة ونسي في خضم ذلك أن نيل الدرجة بالكفاءة والاستحقاق وليس بالجنس والتمثيل النسبي، وأكثر من ذلك انه رسم صورة غير مقبولة للمرأة البحرينية، إذ صورها بأنها في حال من العنف والغبن الناتجين عن التسلط الذكوري، ما جعل المستمع لهذا الخطاب الاحتجاجي يتصور أن الوضع لا يخرج عن أمرين: اما ان المرأة البحرينية تحب العنف، وترغب فيه على غرار قول العجوز لزارا: «إذا ذهبت إلى المرأة، فلا تنس السوط»، أو ان البحريني عنيف وعنصري ضد المرأة، فكأننا في حرب، من يلقى الهزيمة ومن ينتصر، وبالتالي من يرث العقاب ومن يكتوي بالألم.
أما الخطاب الإسلامي النسائي البحريني فقد ظل مغيباً عن الساحة لفترة طويلة، وعلى رغم تميزه بالصدق والالتزام، فانه لم يسع إلى تأسيس مناهج فكرية ونظريات نسائية منطلقة من المرأة ذاتها، بل أغلق نفسه في دائرة ضيقة، فهو المتحدث وهو المستمع في الوقت ذاته، فغاب الناقد، وضلت معه بوصلة التطور والبناء. هذا الخطاب مرتبط أشد الارتباط بمراكز القوى سواء في السلطة السياسية لدى التيار السني في سياق ولاية ولي الأمر، أو السلطة الدينية لدى التيار الشيعي والمتمثلة في مرجعية الفقيه، ولا نقصد بذلك الخروج عن الأطر التي رسمتها له تلك السلطات لأن ذلك من هيكلة الخطاب الإسلامي عامة، لكن ذلك لا يعني الا نفرق بين الخطاب الرجالي والنسائي في هذا التيار، فالوحدة لا تتعارض مع الخصوصية وروح الاختلاف. ونجح هذا الخطاب في الخروج عن أبجديته الأولى والمتمثلة في الدعوة إلى الحجاب ومحاربة الفساد والفجور، إلى المطالبة بالحقوق والمشاركة في العمل المؤسساتي، لكن مازالت القوى النسائية الإسلامية البحرينية منحصرة في خطابها في مجالات الدعوة، فهي بحاجة الآن إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وخصوصاً أن الساحة الشعبية والرسمية مفتوحة لها للظهور، إذ يجب على نساء هذا التيار أن يظهرن بشكل مغاير وفعال، فهن لا تنقصهن الكفاءة والمقدرة بقدر ما تنقصهن الثقة وروح المبادرة.
وعلى رغم تلك الإشكالات، فانه لابد لنا أن نعترف بأن وضع المرأة البحرينية لا يمكن مقارنته بوضعها قبل عشرين سنة، وان لهذا التحول السريع دلالاته التي تعكس فكر المرأة البحرينية من جانب، وحرص الجهات الأهلية والحكومية على دفع المرأة نحو الأمام من جانب آخر، فنحن أمام مرحلة صعبة كثر فيها الحديث عن التمكين السياسي للمرأة، وأخشى أن يتحول ذلك إلى سباق ومزايدة من يوصل المرأة أولاً، ومن يتمكن من إنجاح برنامجه، بغض النظر عن الأهلية، وهذا يؤكد أن حرمان المرأة من مشاركتها السياسية ليس مرهوناً بالجنس والقيود الاجتماعية بقدر ما هو رهن للسياسة والتنظيمات الذكورية.
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1279 - الثلثاء 07 مارس 2006م الموافق 06 صفر 1427هـ