العدد 1279 - الثلثاء 07 مارس 2006م الموافق 06 صفر 1427هـ

نوح... زهرة عشرينية يانعة خطفتها سياط التعذيب

«الوسط» تفتح ملف ضحايا الانتهاكات في حقبة أمن الدولة (9)...

بعيداً عن معادلات السياسة، وبعيداً عن كل المصالح والاتهامات المتبادلة في ملف الشهداء وضحايا التعذيب الذي فتح على بساط البحث، فإن لهذه القضية وجهاً إنسانياً لا يقبل التشكيك.

إنه حديث عن ضحايا كانوا ولايزالون يعانون، وكثير منهم لم يرتكبوا جرماً سوى المطالبة بحياة كريمة في ظل احترام الإنسان بصفته بشراً له كرامة وحقوق لا يفرط فيها.

لنبتعد عن السياسة قليلاً، فسنرى أن هناك واقعاً مأسوياً بكل ما للكلمة من معنى تعيشه عائلات بحرينية كريمة، بعضها فقدت حبيباً، وأخرى عانى أبناؤها من وطأة تعذيب في السجون والمعتقلات لفترات طويلة، وثالثة شرد أفرادها في أقطار الأرض.

«الوسط» تعرض ضمن مسلسلها المتواصل شهادات حية من عائلة بحرينية كان لها مع عهد أمن الدولة ذكريات مريرة لم تمح من ذاكرتها حتى الآن، وهي لاتزال تعاني بسبب القبضة الأمنية المحكمة التي كتبت لها رواية حزينة اختطت بحلم مواطنين كان جرمهم أن حلموا بوطن يحيا فيه الأمل.

قصة اليوم هي لحظات حزينة دوناها مع عائلة فقدت زهرة من زهورها، اقتطفت على حين غرة... لم يتسن له أن يودع أمه التي تنتظر ساعة عودته من عمله، ولم يعانق إخوانه وأخواته الذين علقوا عليه آمالاً عريضة... شمعة انطفأت سريعاً، وزرعا يانعا حصد قبل أوانه... انه شاب، هادئ، وادع، ذهب ضحية تعذيب متعمد في زمن كانت اليد الطولى فيه للبطش المنافي للكرامة والمعيار الإنساني، في يوم لم يكن للقانون وجود...!

ولد الشهيد نوح خليل عبدالله آل نوح في منطقة النعيم (إحدى ضواحي العاصمة المنامة)، وترعرع في كنف والديه، وكان له 3 من الاخوة و5 من الاخوات، وهو أصغرهم. ومنذ صغره تميز نوح بحبه لمساعدة الآخرين وقضاء حوائج أهله وكل من احتاج إليه، كما كان ناشطاً في العمل الاجتماعي وخصوصاً في خدمة المآتم الحسينية من توزيع الماء وإعداد المأكولات وتركيب السواد واللافتات الحسينية.

درس نوح حتى المرحلة الثانوية (القسم التجاري)، وكان في الوقت نفسه ماهراً في الأعمال والحرف اليدوية (...) كان مبدعاً في النجارة وتصليح السيارات والأجهزة الميكانيكية.

وتسجل أخته الكبيرة بعض أوراق معاناة أخيها: «نوح كان مظلوماً حتى قبل ذلك الحادث لأنه كان عاطلاً عن العمل، إذ ظل يبحث طيلة عامين من بعد تخرجه في الثانوية عن عمل، وعندما كنت أقول له: اخطب... يجاوبني: أنا سأعمل وأجهز مكاناً ومن ثم سأقدم على الخطوبة».

ويروي سعيد (شقيق نوح) ظروف اعتقال أخيه قائلاً: «اشتغل نوح بعد تخرجه في الأعمال الحرة، فكان يساعد أخاه الأكبر في محلهم التجاري وكان يعشق العمل بدرجة كبيرة، إذ كان يخرج منذ الصباح الباكر ولا يعود إلى المنزل إلا ليلاً وكان يخرج من المنزل إلى الدكان، والعكس صحيح».

بعد غروب شمس يوم السبت 19 يوليو/ تموز 1998 وارتفاع الأذان، ذهبت إلى الصلاة في المسجد القريب وطلبت من الشهيد عمل الترتيبات اللازمة استعداداً لإغلاق المحل... في هذه الأثناء حضر بعض الرجال في لباسٍ مدني وأخذوا نوحاً معهم وقاموا بإغلاق المحل وتسليم مفاتيحه إلى المحل المجاور له، ولما حضرت استغربت من إغلاق المحل من دون وجود أخي فأخبرني صاحب المحل المجاور بما جرى وأن رجالاً يعتقد أنهم من الدفاع المدني أخذوه معهم.

نوح (22 عاماً) لم يكن يعرف ماذا يدور من حوله، لكن القدر المتيقن أنه عرف أنهم قوات أمن متنكرة في زي مدني، وذهبنا إلى مراكز الشرطة المختلفة... ذهبنا إلى مقر وزارة الداخلية (القلعة)، مركز النعيم، مركز العدلية، ولكن لم تسفر محاولاتنا عن أية نتيجة، وعاودنا المحاولة الواحدة بعد الأخرى طيلة 27 ساعة، وما تلقيناه فقط من إجابات تلك المراكز، بأنها لا تعلم بوجود نوح في أي من مراكز الاحتجاز!

ويضيف شقيقه قائلاً: «استمر هذا الوضع المبهم إلى نحو 3 أيام، وفي ظهر يوم الاثنين اتصل بي أحد رجال قوات الدفاع المدني، وقال: «هناك من ينتظرك في المستشفى العسكري»... وطول الطريق كانت تراودني سيناريوهات محتملة بشأن وضع أخي الصحي، لكنها كانت الصدمة المدوية!

ما إن وطئت قدماي المستشفى حتى كان بانتظاري خبر أكبر من الصاعقة... «أخوك نوح فارق الحياة»، ودوّن في الإفادة الطبية بأن سبب الوفاة فشل قلبي، لكني لم اصدق هذا السبب، لأن نوح لم يكن يعاني من مرض قلبي.

آثار الحرق والضرب والتعذيب بالمكواة رسمت في جسم هذا الشباب... فعلاً، كانت صدمة كبيرة جداً لي وللعائلة وللأصدقاء ولكل أهالي المنطقة، فعلى المستوى الأسري، كان نوح أصغر الأبناء، وكنا نعتبره بسبب ذلك «الابن المدلل»... إنها صدمة من العيار الثقيل كان وقعها شديداً على كل من عرفه أو سمع عنه، وما يثير الحرقة أن نوح استشهد تحت وطأة ما يمكن أن نطلق عليه «قتلاً متعمداً».

ولكن كيف استقبل الأهالي هذا الخبر؟ يجيب قائلاً: «عند شياع هذا الخبر، اكتست المنطقة بالسواد، وأصبحت النعيم كتلة من المسيرات الشعبية العفوية والغاضبة على هذا «الفعل الشنيع»، وخصوصاً عندما عرفنا بأن نوح توفي في يوم اعتقاله، نوح... نفس بريئة أزهقت ظلماً كغيره من الشباب الذين كانوا ضريبة للبطش الأمني كالشهيد سعيد الاسكافي وغيره من شهداء الوطن العزيز.

وبحسب شقيقة نوح فإن قوات الأمن دخلت مأتم النساء الذي أقيم فيه مأتم العزاء (الفاتحة) «دخلوا ومزقوا صور أخي بشكل أثار الحرقة في قلوب كل من حضر، ولم نتمكن سوى من جمع الصور التي بحوزتنا لكيلا يطولها التمزيق أيضا (...) كانت طريقتهم وحشية جداً... كلا لا يمكن لإنسان أن يصنع ما صنع هؤلاء»!

آثار نفسية كثيرة حصلت لأفراد العائلة بعد استشهاد أخي «فالعائلة كانت تعيش في بيت جديد منذ عامين اشتراه الوالد في منطقة الزنج، إلا أنه بعد وفاة أخي نوح، تركت والدتي منزل الأسرة، وقررت العيش في مأوى صغير، لأنها لا تريد أن ترجع إلى ذلك البيت الذي يذكرها بابنها، ورفضت دخول ذلك البيت، بل حتى المرور على الشارع الذي يطل على المنزل(...) لقد أصيبت والدتي بحال نفسية لا يمكن أن توصف.

نوح، رحل إلى جوار ربه، لكنه خلّف في نفس أسرته جرحاً غزيراً غائراً، فوالدته أبت على نفسها - منذ يوم استشهاده - ألا تحضر مجالس الفرح حتى لأعز أحبتها، وتركت منزلها الجديد وعادت لتنزوي في غرفة ضيقة في بيت قديم في منطقة النعيم.

وتضيف «المحاكمة من شأنها أن تطفئ جزءا من الجرح وليس كل الجرح... قد لا تتصور بأن في كل لحظة أغمض فيها عيني أرى فيها صورة أخي، وكلما أرى شخصا في عمره احسبه نوحا... وأحيانا أصاب بحال نفسية فاركض خلف من يشبه نوح».

وتبين بعد ذلك أن نوحاً لم يبق طويلاً في مركز التعذيب والتحقيق فقد تم اعتقاله ليلاً واستشهد فجراً بحسب شهادة الوفاة، وذلك إثر التعذيب الشديد الذي تعرض له، وكانت آثاره واضحة على كل أنحاء جسمه، ما يدل على أنه تعرض للتعذيب أثناء اعتقاله.

وسرعان ما انتشر خبر الاستشهاد فتوافد المئات من الشعب إلى مقبرة النعيم لتشييعه فكانت جنازة مهيبة حضرها الكبار والصغار حتى ووري جثمانه الثرى، وأذيع خبر استشهاد نوح في وكالات إخبارية مختلفة، وفي بيان لها آنذاك قالت منظمة «مراقبة حقوق الإنسان» «هناك أنباء عما لا يقل عن سبع حالات وفاة ناجمة عن التعذيب، أو سوء المعاملة، أو الإهمال الطبي الذي تعرض له المعتقلون في البحرين منذ بدء الاضطرابات في ديسمبر/ كانون الأول 1994(...) وكان آخر الضحايا الذين لقوا حتفهم في الحجز شابٌ في 23 يُدعى نوح خليل عبدالله آل نوح، ورد أنه كان في صحة جيدة عندما اعتقله أفراد قوات الأمن البحرينية في منطقة النعيم بالمنامة يوم 19 يوليو/ تموز 1998. وعندما أعيد جثـمان نوح إلى ذويه في 21 يوليو/ تموز... كانت آثار التعذيب بادية عليه».

وترفض عائلة نوح مبدأ التعويض المالي: «نحن نريد تحقيقاً عادلاً في هذه القضية ومحاكمة من تسبب في قتل أخي من دون أي سبب... وحتى الآن لاتزال قصة التعذيب يكتنفها الغموض، ولم تتضح بعد بكل تجلياتها (...) التعويض المادي مرفوض رفضاً باتاً... هل يعوض الإنسان حفنة من مال

العدد 1279 - الثلثاء 07 مارس 2006م الموافق 06 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً