الآن وبدأ الفزع الناتج عن فيروس «حمى الخنازير» (H1N1) يتراجع حول العالم، بدأت الحكومات والمنظمات الدولية وأفراد الشعب العاديين تبحث فيما إذا كان الرد على الخطر الحقيقي مناسبا. هناك بعض القلق من أن حكومات معينة أخذت هذا التهديد إلى درجة من الجديّة بحيث أن ردهم ذهب إلى أبعد ما تتطلب الأمور، مما نتج عنه التوتر والتمييز في المجتمعات المحلية. مصر هي واحدة من تلك الدول.
لم يؤدِّ فيروس «حمى الخنازير» إلى إغلاق المدارس وإلغاء الحفلات والحجر الصحي فحسب، وإنما أدى في مصر، وهي دولة لم تسجّل حالة واحدة من المرض، إلى زيادة التوتر بين المسيحيين والمسلمين.
مصر دولة إسلامية بشكل كاسح، حيث يمنع الدين استهلاك لحم الخنزير بالنسبة لغالبية المواطنين. قررت الحكومة المصرية، بدعم من غالبية ساحقة من أعضاء البرلمان، إعدام جميع الخنازير في مصر وتعويض أصحابها بشكل محدود. وعلى رغم أن هذا التحرك الصارم يزيد عن نداء الواجب في أية دولة أخرى، فإن ما يجعله حسّاسا بشكل خاص في مصر هو أن الأقلية القبطية المسيحية هي التي تربي الخنازير فقط وتستهلك لحومها.
نتيجة لذلك، يقرأ مسيحيو مصر هذا التحرك السريع من قبل الحكومة على أنه محاولة لاستهدافهم كمجتمع ديني.
تجري تربية معظم الخنازير في مصر في مناطق يقيم ويعمل فيها من يجمعون القمامة، حيث يقومون بجمع القمامة مستخدمين عرباتهم التي تجرها الحمير، والتي يسهل تحريكها داخل المدينة، ويعودون بها إلى بيوتهم حيث يقومون بتصنيفها وبيع أو الاحتفاظ بما له قيمة وتدوير بعض المواد البلاستيكية والزجاجية وإطعام المواد العضوية لخنازيرهم. وهم بذلك يُعتبرون من بين المجتمعات المحلية القليلة التي تقوم فعليا بتنفيذ ممارسات تدوير مستدامة حتى ولو كانت البيئة التي يعيشون ويعملون فيها لا توفر الضروري من حيث النظافة والسكن المناسب والخدمات المجتمعية.
اعتبرت مطالب التخلص من الخنازير في مصر، من هذا المضمون، ومن قبل الجالية القبطية المسيحية، على أنها موجهة ضد مصادر رزقهم.
ضجّت وسائل الإعلام في مصر وحول العالم بالأساليب التي كان بالإمكان استخدامها للتعامل مع هذا الوضع بصورة أفضل. على سبيل المثال، ألم يكن هناك سبيل أفضل للتواصل بين الحكومة والجالية القبطية بشأن ضرورة التخلص من جميع الخنازير وما كان يمكن عمله لتعويض الجاليات المتضررة بسرعة وعدالة؟
ما يثير القلق بشكل خطير هو سبب اتخاذ هذا النزاع غير الديني على ما يبدو منحى طائفيا، وهي دينامية تزداد وتيرتها في مصر.
أصبحت حياة الناس ومصادر رزقهم متداخلة إلى درجة يصعب فيها الفصل بين الوضع الاقتصادي والازدهار الاجتماعي. لا يكفي الاستمرار بالأمل بعلاقات جيدة بين الأديان، وهو الأمر الذي يرنو إليه معظم المسلمين والمسيحيين في مصر، من دون الولوج في حوار عن الازدهار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في المجتمع ككل. لعلنا نحتاج، بدلا من التركيز على النتائج السلبية، أن نتعلم الدروس من التوترات والنزاع الذي ولّده هذا الحدث حتى يتسنى تحقيق احتمالات توترات مستقبلية.
يستطيع الأفراد والمجموعات المنخرطين في دوائر الأديان أن يستخدموا هذه الفرصة لإضافة عنصر جديد إلى أجندتهم، الحوار حول الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، ويمكن لذلك أن يبدأ بقضية ملحّة هي مجتمعات جمع النفايات، وكذلك الامتداد إلى المجتمعات الأخرى المعرضة في مصر، مثل المهاجرين الداخليين الذين يقيمون بشكل غير قانوني في المناطق الحضرية الفقيرة حول المدن الكبيرة.
أحد الخيارات التي يجري بحثها نقل مجتمعات جمع النفايات في المدن إلى مواقع خارج مدينة القاهرة. لا تساعد هذه الحركة على تخفيف الاكتظاظ السكاني في مدينة مكتظة أصلا فحسب، ولكن بإمكانها كذلك الحد من الأخطار الصحية الشديدة المتعلقة بوجود تلال من القمامة على مقربة من المناطق السكنية وتوفير مساحة لجهود التدوير الأكثر كفاءة ونظافة على مستوى أوسع.
يُشكّل هذا الصدع الحديث كذلك فرصة للمسيحيين والمسلمين لأن يفكروا معا وبعمق بأسباب اتخاذ النزاعات اليومية العادية وبشكل مستمر توجهات دينية تضر بعلاقات تعتبر طبيعية في الأوضاع العادية. قد تستطيع لجان الأديان القائمة التي عادة ما تتدخل عندما يقع النزاع أن تتخذ أعمالا احترازية للحد من عدد أحداث كهذه في المستقبل.
سيكون هناك دائما في مصر تخوف من مصدر وتوقيت الحلقة التالية من مسلسل التوتر، إلا أن التفكير بالنزاع كفرصة لأسلوب تعاوني في حل المشكلات قد يضمن أن يُعطي المسئولون في الحكومة المصرية المزيد من التفكير بالآثار المحلية لردهم على التهديد العالمي الآتي.
*باحث زائر بمركز الوليد بن طلال للحوار الإسلامي المسيحي بجامعة جورجتاون ومرشح للدكتوراه في معهد تحليل النزاع وحلّه بجامعة جورج ميسون،
والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2457 - الخميس 28 مايو 2009م الموافق 03 جمادى الآخرة 1430هـ