أليس حب الوطن أمراً فطرياً مركوزاً في النفس الإنسانية متحرك في خلايا النفس؟ إذاً، لماذا يعشم أحدنا نفسه العناء في الكتابة عنه والحديث عن حبه والالتصاق به؟ هل مثل هذا التوجه موجود في الغرب مثلاً؟ هل مكتباتهم مليئة بالكتابات التي ترغب في حب الوطن أم انه منتج خاص بالدول العربية والإسلامية وحدها؟ كانت هذه أهم المداخلات والأسئلة التي وردتني عبر الايميل عن مقالي السابق في «الوسط» بعنوان «وغاب الوطن». وإذ اشكر الذين تواصلوا معي بوجهات نظرهم، أشير إلى أن كتابتي عن الوطن وغيابه أو ضبابية رؤيته وأن كان فطرياً ومركوزاً في النفس تتخندق بأمور أولها التذكير «وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين»؛ وثانيها إنني لا أعتقد أن الوطن هو المنفرد واليتيم الذي كتب عنه وذكر به مع انه أمر فطري، فحب الوالدين وطاعتهما أمران فطريان لا خلاف في فطريتهما، ومع ذلك فالتذكير بحبهما وطاعتهما أمر طيب ومردوداته حسنة ونافعة؛ أما الأمر الثالث وهو ما أود بسط الحديث فيه، فهو أن القارئ للحوادث في عالمنا العربي والإسلامي يلحظ تجليات واضحة لغياب الوطن وأفول حضوره في نفوس أبناء مجتمعاتنا، ما يدعوني للكتابة دون الاكتفاء بفطريته في النفس الإنسانية.
التجلي الأول: حين ينشب خلاف بين الشعوب العربية وأنظمة الحكم القائمة، أو بينهم وبين بعض ممارسات تلك الأنظمة سواء كان الخلاف لدكتاتورية تلك الأنظمة، أو عدم اهتمامها بتنمية المجتمع وتلبية احتياجاته أو لأي سب آخر، فإننا نلحظ الغزل قائماً بين الاستياء الشعبي والجماهيري وبين الأجانب، وأحياناً تتعالى الأصوات متجاوزة كل الخطوط الحمر، لتطلب التدخل من الأجنبي وتروج لذلك تحت مسمى الديمقراطية والحرية والإصلاح. ويفترض أن أحد الأسباب الرئيسية للتكاره هو خوف المجتمع على وطنه وخيراته، والوقوف أمام أي نظام يريد العبث بها أو توجيهها وجهة ليست في خير الوطن، لكن ولغياب الوطن تضيع بوصلة الإصلاح فيصبح همها التخلص من نظام الحكم القائم وإن خطف الوطن أو احتل أو دنس وانتهك.
التجلي الثاني: حين يتعرض وطن من أوطان العرب والمسلمين للتهديد والابتزاز والخطر وأحياناً الاعتداء من الأعداء والمتربصين، فإننا نشهد غياباً تاماً للوطن على لسان مئات الآلاف من الجماهير التي تنتظم في مسيرات التحدي والمبارزة وهي تهتف (بالروح بالدم نفديك يا عدنان) (يحيا القائد... يحيا الزعيم). هذه الشعارات التي نسمعها يومياً من أفواه أبناء امتنا العربية والإسلامية، تكشف أما عن غياب تام للوطن، وكأن مطمع الأعداء هو فلان الحاكم، أو نظامه المتسلط، وليس الوطن وخيراته وموقعيته وثقافته وأهله، أو أنها تكشف عن اختزال وتقزيم للوطن بحيث يتلخص كله في زعيمه.
لا أشك أبداً أن الجماهير تندفع مخلصة مستعدة للتضحية والعطاء، خوفاً على أمنها وقيمها وترابها، لكن لنا أن أتساءل: لماذا تأقلمنا مع هذا التعبير؟ ولماذا نستبدل القيمة الكبرى (الوطن) في شعاراتنا بقيم اصغر، علماً أن كل قائد يفترض أن يكون الأكثر استعداداً وتضحية في سبيل الوطن؟ بل أن يكون أول المشاركين في مسيرات التحدي لينادي مع شعبه «بالروح بالدم نفديك يا وطن».
التجلي الثالث: بروز الانتماءات الطائفية وغيرها في البلاد العربية والإسلامية، فحين لم يلهج اللسان بالوطن فغاب عن الحضور الفاعل في حياة أبنائه ضعف تبعاً لذلك الانتماء إليه، وللخلاص من ضياع اللاانتماء انطلق الناس ليجدوا بديلاً مكان ما فقدوه، فقفز المذهب ليحل بديلاً عن الدين، والقبيلة كبديل للشعب، والإقليم مقابل الوطن، والعرق والطائفية بديلاً للوطن والمواطنة. هذا الاستبدال وإحلال الهموم والضغوط الحاضرة مكان الهم الغائب (الوطن)، والانتماءات الضيقة في موقع الانتماء الكبير كان من الخطايا التي وقعت فيها حتى الكيانات السياسية التي أتعبها غياب الوطن فاندفعت تنفخ روح الفئة والطائفة في جماهيرها وأتباعها، لتصبح هموم الطوائف هي الحاضر الأول والمطلب الأساسي. ومع مرور الزمن وتعالي هذه النبرة يحدث مسخ تام لمفهوم الوطن وإحلال خطير لتوجهات الطوائف التي ربما يكون بعضها مستعداً لحرق الوطن والاتجار به في بورصة المحاصصة الطائفية. لقد استطاع الأعداء بخططهم وتلاعبهم أن ينقلوا طائفة ما من الدرجة الثانية إلى الدرجة الأولى، ولكن للأسف الشديد كان هذا النقل بعد أن اختطفت الطائرة كلها، وسرق الوطن. إنها قدرة الأعداء من جهة أن يقايضوا الطوائف على حساب الأوطان، وضعف في المقابل أصاب الشعوب فأنساها أوطانها وأشغلها بصغريات الهموم.
التجلي الرابع: هو الاندفاع من قبل الكثير من المسيرات الشعبية والمظاهرات الجماهيرية التي تطالب بالإصلاح في العالم العربي إلى العبث بالممتلكات العامة، وتخريب ما وصلت إليه أيديهم من معالم البلاد وخيراتها. بل ان الكثير من الجماعات في العالم العربي اتجهت لضرب البنى التحتية لبلدانها بسبب ما بينها وبين أنظمتها من جفوة وخلاف، فضربت قطاع السياحة أحياناً، وفجرت الكثير من النقاط الاقتصادية والحيوية في مناطقها، وتوجهت للثروات العامة بغرض نسفها والإضرار بها. أليس غريباً في الذين يقولون أنهم يحملون هم التغيير والإصلاح أن يسعوا لإهلاك الحرث والنسل باسم التغيير؟ وهل بعد هذا يكون الحديث عن الوطن وتأكيده عبثاً لا داعي له
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1277 - الأحد 05 مارس 2006م الموافق 04 صفر 1427هـ