في دراسة قيمة للباحثة نيفين مسعد، أستاذة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، منشورة في مجلة «المستقبل العربي» الصادرة في شهر يونيو/ حزيران 2009، تشخص النزاعات الدينية والمذهبية والعرقية (الإثنية) في الوطن العربي، وتقدم مجموعة مركبة من العوامل التي تجعل هذه النزاعات إحدى القضايا المزمنة لدولها، وأهم هذه العوامل هي الخلل في أسلوب إدارة التنوع المذهبي، ودور الأطراف الخارجية، الإقليمية والأجنبية.
العامل الأول يتمثل في الخلل في أسلوب إدارة التنوع المذهبي، وذلك في إقدام الجماعة الحاكمة على تهميش ما عداها من جماعات أخرى، وتتفاوت محاور التهميش من تهميش اقتصادي كما هو الحال في دارفور (السودان) أو ثقافي كما هو الحال لدى شيعة الخليج، أو سياسي كأقباط مصر، وقد يكون مركبا يجمع بين أكثر من نوع من أنواع التهميش، كالسياسي والاقتصادي مثل سنة العراق بعد الاحتلال، أو سياسي اقتصادي ثقافي كزنوج موريتانيا.
أنواع من التهميش
إضافة إلى هذا التهميش، هناك تهميش آخر مرتبط بنسبة التوازنات بين الجماعات المذهبية والإثنية، فشيعة لبنان بعد الحرب الأهلية ليسوا كما كانوا قبلها، ولا هم في موقعهم من النظام السياسي بعد حرب يوليو/ تموز 2006 كما كانوا قبلها، أو بعد أحداث مايو/ أيار 2008 كما كانوا قبل اندلاعها. والسودانيون الجنوبيون بعد اتفاق السلام الشامل في العام 2000 اختلف وضعهم جذريا عنه غداة الاستقلال.
وعلى صعيد ردة فعل هذه الجماعات على ما تتعرض له من تهميش فتختلف من جماعة لأخرى، فبعضها يرد على التهميش بالانخراط في العنف كأكراد العراق منذ العشرينيات وحتى العام 2003، أو بالهجرة كيهود الوطن العربي بعد نشأة الكيان الصهيوني، أو المطالبة السياسية كبربر المغرب، أو الانكفاء على الذات كآشوريي العراق.
بيد أن بعض الجماعات تغير طريقة مقاومتها ضدا للتهميش الذي يمارس بحقها، كانتقال شيعة الأحساء في السعودية من التمرد في مطلع الثمانينيات إلى المطالبة السياسية بعد احتلال العراق، وتنفيذ سنة العراق سياسات متنوعة كالمطالبة السياسية وكذلك العنف الطائفي، وانتقال أكراد سورية من الانكفاء على الذات إلى العنف، وتحول بربر الجزائر من المطالبة السياسية إلى العنف ثم الانتقال مرة أخرى إلى الحقل السياسي.
وتشير الباحثة في دراستها إلى أن الجماعة الإثنية والمذهبية الحاكمة عادة ما تملك أدوات الضغط والتحكم ومواجهة ردود أفعال الجماعات الأخرى التي تهمشها. فتارة تستخدم سياسة تنفيس الاحتقان وعدم تركه يتراكم لدرجة الانفجار، وعادة تخلق تمكينا اقتصاديا لها مع استمرار تهميشها سياسيا كتعامل النظام المصري مع أقباط مصر، أو العمل دون تركيز هذه الجماعة في مكان جغرافي واحد كما حدث في العراق إبان حكم صدام حسين، أو بتشجيع الانصهار الطوعي عبر التزاوج المختلط كما حدث في موريتانيا بالنسبة للبربر، أو باستخدام التصفية الجسدية الواسعة كما حدث في غرب السودان.
دور البيئة الخارجية الإقليمية والدولية
تشير الباحثة إلى أن لكل من تركيا وإيران دورا في تشكيل التفاعلات الإثنية والمذهبية داخل الأقطار العربية؛ وكذلك أثيوبيا بالنسبة للتوازنات الإثنية في الصومال وعلى السودان أيضا. ودوليا يلعب الموقع الاستراتيجي للوطن العربي ووجود النفط والكيان الصهيوني، فتاريخيا دعم البريطانيون تأسيس دولة آشورية شمال العراق، وأخرى درزية في لبنان وذلك بعد الحرب العالمية الأولى، وكرسوا انفصال جنوب السودان عن شماله لغة ودينا وجغرافية، كما قامت فرنسا بذات الأدوار مع أمازيغ المغرب وأقباط مصر وموارنة لبنان. والدور الفرنسي ـ البريطاني المشترك في هندسة الحدود العربية وفق اتفاقيات سايكس بيكو، والدور الروسي وعلاقته بطائفة الروم الارثوذكس، والدور الأميركي في تزعم حملة حماية الأقليات وتدخلاتها في لبنان والصومال ومصر والسودان، ناهيك بالعراق.
وترى الباحثة بأن النزاع السني- الشيعي يمثل جوهر النزاعات الإثنية في خمسة أقطار عربية وهي العراق ـ لبنان ـ البحرين ـ الكويت ـ السعودية، فضلا عن اليمن إلى حدٍ ما. وفي تحليلها لأسباب بروز هذا النزاع الطائفي وجدت أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية متداخلة وراء ذلك وهي، الاحتلال الأميركي للعراق وأثره في تأجيج العداء بين السنة والشيعة؛ وتزايد النفوذ الإيراني الإقليمي وما ارتبط به من تهويل الخطر الشيعي حتى في الأقطار التي تبعد بحكم تركيبتها الديمغرافية السنية الطاغية عن هذا الخطر كمصر والأردن؛ والسبب الثالث نتائج حرب تموز 2006 التي حرّف بعض الغلاة مدلولها العسكري من كونه إحباط العدوان الصهيوني على لبنان إلى كونه انتصارا جديدا للشيعة.
بيد أن الباحثة تؤكد بأن وراء النزاع السني الشيعي جذورا تاريخية سابقة، غير أن المدى الذي وصل إليه راهنا هو نتيجة للأسباب الثلاثة المتقدم ذكرها. فقد نجح الاحتلال الأميركي للعراق من تسويق فكرة طائفية نظام البعث في العراق، وجاء دخول تنظيم القاعدة بتطرفه الشديد المحسوب على السنة ليصب الزيت على النار، كما ساهم هذا الاحتلال في توطيد دعائم النفوذ الإيراني في العراق.
وفي تشخيصها لما أدى المناخ المذهبي المخيم بشدة على المنطقة منذ العام 2003، تحويل كل نقاش سياسي داخل مجلس النواب البحريني إلى توتر سني- شيعي على رغم أن القضايا في معظمها تكون قضايا عامة يتفق من حولها ويختلف، وواكب بالتالي هذا الاستقطاب المذهبي البحريني إثارة قضايا من نوع تأسيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعديل قانون الأحوال الشخصية، والموقف من المقاومة العراقية، وحتى الفقر والبطالة، كما واكب بشكل أوضح في قضية التجنيس.
وفي الكويت وبعد العام 2003 أثيرت قضايا برلمانية كانت وطنية الأبعاد وتحولت أيضا إلى أبعاد طائفية كتقسيم الدوائر الانتخابية وأثره في الإخلال بالتوازن الديمغرافي المذهبي، وتدريس الفقه الجعفري.
وفي السعودية رغم ظهور بوادر الانفتاح على بعض الشيعة التي بلورها (450) من رموزهم في وثيقة أعدوها العام 2003 حيث التقى ولي العهد السعودي بممثلي هذه المجموعة، والبدء في مظاهر التخفيف على شيعة القطيف والمدينة فيما يخص بناء المآتم وإحياء ذكرى عاشوراء وإصدار المطبوعات... إلخ، لكن اندلاع حرب 2006 في لبنان أحيا فتاوى متشددة تحرّم نصرة حزب الله لتشيعه، الأمر الذي كشف عن خلل خطير في تعاطي المؤسسة الدينية مع قضية الاختلاف المذهبي.
ارتفاع تكلفة النزاعات الطائفية
تستعرض الباحثة التكلفة البشرية والمادية للنزاعات الطائفية، فهي تكلفة عالية بسبب الدفاع عن العقيدة حيث لا يتردد الفرد في بذل التضحية ثقة في ثواب مؤجل، وإن يكن ليس أكيدا، بجانب أسباب موضوعية أخرى كالتطور الشديد في التكنولوجيا المستخدمة في عمليات العنف السياسي، والطابع الأخطبوطي لشبكات العنف، والتغطية الإعلامية الواسعة لنشاط تلك الشبكات الأمر الذي يخلق المزيد من التعبئة والتجنيد.
وتكشف الباحثة بالأرقام عن الخسائر البشرية والمادية الهائلة للحربين الأهلية اللبنانية والعراقية، حيث تداخلت الأبعاد الطائفية والمذهبية فيهما. وترى بأن النزاع اليمني مرشح لأن ينحو منحى مماثلا بالنظر إلى تزايد الخسائر الناجمة عنه من جولة إلى أخرى، فخلال ثلاثة أشهر من تمرد حسين الحوثي في العام 2004 قدر عدد القتلى بـ 400 شخص، وعندما تجدد القتال على يد أخيه عبدالملك في العام 2005 سقط 280 قتيلا، وخلال العام 2007 قتل 700 من الجانبين مع تكرار المواجهات بين الجيش والحوثيين.
الآليات المطروحة لاحتواء النزاعات الطائفية
يكشف مسار النزاعات الطائفية بعد احتلال العراق تبلور ثلاث آليات رئيسية طرحت للتعامل مع النزاعات القائمة:
1 - آلية التوافقية: حيث تستند على التوزيع النسبي للموارد السياسية والاقتصادية واعتماد نظام للانتخابات يقوم على القائمة النسبية، وتشكيل حكومة ائتلافية تتمتع فيها الجماعات المختلفة بحق الفيتو أو الاعتراض على القرارات الماسة بها. وكانت لبنان أول دولة عربية تطبق هذا النوع من الديمقراطية التوافقية على أساس طائفي- لغوي غير إنها تعثرت أيضا ومازالت العراق تواجه الأزمة تلو الأزمة.
2 - آلية الفيدرالية: والتي شرعت دستوريا في العراق حيث تم تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق أصبحت لها ضرائبها وعملتها ومليشياتها، فضلا عن مؤسساتها التنفيذية والتشريعية، وبسقوط بغداد تمددت صلاحيات الإقليم الشمالي أكثر فأكثر، حتى وصلت إلى فتح مكاتب لتمثيل الإقليم في الخارج والتعاقد المباشر مع الشركات الأجنبية للاستثمار فيه دون مشاورة الحكومة، ومنع دخول الجيش العراقي فيه إلاّ وفق ضوابط محددة.
3 - آلية التقسيم: وهي آلية تفكيكية تمت محاولة تنفيذها في مخيم نهر البارد في شمال لبنان بتأسيس إمارة إسلامية في طرابلس، أو محاولة تأسيس أمة اثنى عشرية في محافظة صعدة شمالي اليمن. وقد حاولت إدارة المحافظين الجدد في البيت الأبيض الأميركي تنفيذ هذه الآلية حيث نشرت صحيفة القوات المسلحة الأميركية في يونيو 2006 تقريرا مستفزا بعنوان «حدود الدم» تضمن خريطة جديدة للشرق الأوسط الكبير يتم فيها ترسيم الحدود على أسس طائفية وإثنية.
وخلاصة هذا البحث القيّم تشير إلى أن أمام هذه الآليات التي هي في حقيقتها ليست جديدة بل هي متلازمة مع الاستعمار التقليدي، فإن الآلية الديمقراطية الصحيحة التي تشدد على المواطنة قد تراجعت في المنطقة العربية، وهي الآلية التي تنادي بالديمقراطية التكاملية وترفض استئثار الأغلبية الطائفية أو الإثنية بكل شيء وحرمان سواها، كما ترفض المحاصصة السياسية على أسس طائفية، وتؤمن بالحياد المذهبي في صنع السياسات العامة وإيجاد مؤسسات عابرة للإثنيات والمذهبيات أو المساواة أمام القانون والالتزام بنصوص الشرعية الدولية. وبالمقابل تراجع آلية الحكم الذاتي كآلية متاحة للتعامل مع التنوع القومي وهي الآلية المستخدمة في معظم دول العالم ذات الأقليات القومية
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 2487 - الأحد 28 يونيو 2009م الموافق 05 رجب 1430هـ