في حوار مع إحدى القنوات الفضائية العربية (المستقلة) وقع قيادي من أحد الأحزاب الكردية غير المنضوية تحت لواء «إعلان دمشق» تحت عدد من الاخطاء خصوصاً عندما دافع عن ندرة علاقات حزبه مع القوى والمجتمع السوري، سألته المذيعة: فيما إذا كانت لحزبه علاقة مع أي من الإطارين (إطار «الجبهة الوطنية التقدمية» أم «إعلان دمشق»)؟، فكان جواب ذلك القيادي، أن حزبه لا يقيم أي علاقة لا مع «الجبهة الوطنية التقدمية» ولا حتى مع الفصائل المنضوية ضمن إطار الجبهة، وبرر ذلك بأنها (الجبهة) إطار للنظام، كما أنها تشارك النظام في عملية إقصاء الكرد وإلغائهم، ولا تعترف بالشعب الكردي السوري، أما مع «إعلان دمشق» ادعى أنه كان لحزبه علاقات مع بعض فصائله إلا أنه وفور صدور بيان «إعلان دمشق» قاطعوا حزبه، واتهم الـ «إعلان» بأنه مجحف، ولا يعترف بحقوق الشعب الكردي (أيضاً) واصفاً إياه (الإعلان) بأنه ينظر إلى القضية الكردية على أنها قضية مواطنين، وليس على أساس أنها قضية أرض وشعب . في كلتا الحالتين، نفى القيادي الكردي السوري أن تكون لحزبه علاقة مع أي من الإطارين، وهنا مربط الفرس. ثمة من يرى أن هذه حال الأزمة الحقيقية، وهي حال تكشف عن أزمة الحزب الكردي، أزمته مع الذات الكردية وأزمته مع الآخر «العربي» الذي يشاركه العيش في هذا الوطن. حضيض العلاقات وندرتها مع الإطارين السياسيين(داخل النظام وخارجه) في وقت كانت تتسع فيه دائرة «إعلان دمشق»، إذ في الزمان ذاته كان بيان انضمام تنظيمين سوريين آخرين (التيار السوري الديمقراطي بزعامة محي الدين اللاذقاني والمنظمة الآشورية الديمقراطية) إلى «إعلان دمشق» يكشف عن سابقة خطيرة بالنسبة لمستقبل الحركة الكردية. قد يساور المتابع شعور بالخيبة، عندما يرى إحد الأحزاب السياسية يكشف عن أزمته بمواقف عاجزة عن التأقلم مع الذات، قبل الآخر. ربما أصبحت ثقافة المقاطعة والانطواء، ونحن نعيش الألفية الثالثة، عيباً في زمن يسود فيه التفكير السياسي السليم ومسألة التفاعل السياسي، ما يمهد ربما، لظهور ثقافة العيش المشترك ويخلق نوعاً من التعايش، وذلك عبر احترام مصالح الغير هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن عنوان المرحلة السورية الحالية هو نبذ ثقافة الاستعلاء والشعبوية، لأنها ضرورة وطنية أولاً، ولأنها ضرورة حزبية كردية ثانياً. فأكراد سورية شعب عانى من دون شك، عدة سياسات كالإقصاء والإلغاء وبالتالي، ليس من المنطقي أن يقوم الكرد ( وهم مكتوفي الأيدي) بعملية إقصاء للذات وشطب أنفسهم من كل حراك سياسي ومدني في البلاد على عكس استحقاقات المرحلة(الكردية والسورية ببعدها الوطني) ولا أظن أن ظاهرة كهذه من التفرد والمقاطعة لها علاقة بالمدنية أو بالمجتمع المدني . في الحقيقة إن بقاء الكرد في وضع بعيد عن الحراك السياسي شيء يضر بالمصلحة الكردية أولاً وبالمصلحة السورية ثانيا، خصوصا إذا كانت تحت حجج واهية - مثل القول بأن الإعلان لم يعترف بالحقوق القومية للكرد. والحال أنهم بإصرارهم هذا، الذي طالما تأذى الكرد منه، يمارسون سلوكا سياسيا سلبيا، سيفهم من قبل الآخر بأنهم (الكرد) ينكرون حقوق الآخر! مع أن المطلوب من الكرد احترام خصوصية وثقافة ومستوى وعي الآخر (العربي)، الذي قد لا يكون سهلا عليه، ونتيجة للظروف القطرية وغياب الكرد عن الساحة السياسية، أن الكرد موجودون ويتفاعلون كقوى سياسية حية مع القوى العربية ويشاطرونهم الحرص على مستقبل البلاد.
ولا نستغرب... إذا كان لدى الأكراد أناس متعصبون فلدى العرب أيضا أناس متعصبون، فإذا كان حزب «يكيتي» و«آزادي» يلومان أحزابهم الشرعية والمنضوية تحت سقف «إعلان دمشق» لأن هذا الإعلان (على حسب ادعائهم) لا يعترف بحق تقرير المصير للكرد، فهناك لدى القوى العربية أيضا من يلوم قواهم السياسية لأنها أعطت للأكراد ما لا يستحقونه!، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، ألم يسأل هذان الحزبان (يكيتي وآزادي) - اللذان يستمران في تزيين سياساتهما المناطقية (العصبوية) بأوشحة قوموية وشعارات شعبوية خلبية، أثبتت الدروس والعبر الكردية خوائها من أي مضمون فعلي - واللذان لا يرضيان بالتعامل مع القوى العربية على أنهم شركاء في الوطن والهموم والشئون، ألم يسأل الحزبان نفسيهما... كيف يعيش (مثلاً) التجمع الوطني الديمقراطي وحسن عبدالعظيم مع قواعده؟ ألم يسألا عن حال الأحزاب القومية العربية (الناصرية) وهي الرئيسية في الـ «إعلان» كيف تقنع أنصارها؟. إن هلامية المواقف الصادرة عن هذه الأحزاب وانتقاداتها دون مبرر للـ «إعلان» ولبعض أطرافه، دفع بعض المهتمين العرب (سلمى السهرودي مثلا) لأن ينظروا إلى المشاركة الكردية الكثيفة على أن «الأكراد شركاء جبريين»، لأنهم «مازالوا يحلمون بدولة كردستان الكبرى».
ثمة من يرى أنه حان الوقت لكي تخرج بعض القوى والشخصيات الكردية من دائرة المتاهات وان تقبل الآخر وتعيش معه، فمن النواقص السياسية الكبرى أن يفتقد حزب سياسي إلى العلاقات، في بلد يعج بعشرات التنظيمات ومن مختلف المشارب. من السذاجة بمكان أن لا يرى، بأن العرب والكرد والسريان والآشوريين كلهم شركاء في بناء الوطن، وهم بالتالي مجبرون على بناء العلاقات وآفاق التعاون. الحزب الذي يفتقد إلى العلاقات حزب مأزوم ولا يصلح، إلا حينما يقوم بمراجعة نقدية ذاتية، وربما تكون أزمته ناجمة عن الانعزالية والطوباوية، وهو بالتالي مدعو لإخراج نفسه من هذه الأزمة ليس لأجله بل لأجل الكرد لأنه يخصهم، ولأنه ليس حرا بالتصرف بمصالح الناس فهو يحمل الهوية الكردية، فإماطة سيطرة ثقافة العزلة ضرورة حياتية بالنسبة للكرد، ولأن التقوقع في دائرة العصبوية وفي تراث سياسي متخلف ومركب من ثقافة اليسار الطفولي ولى عصره، حيث:
1- الوضع الكردي لا يحتمل الرهان على عواطف الجماهير واستغلالها، عبر طرح شعارات، هي أكبر من حجمه الحقيقي، من المنطقي أن تدرك تلك الأحزاب أن الجماهير التي تبنى عبر الشعارات تسقط عندما تدرك الجماهير جدوى تلك الشعارات، والأكراد أدرى من غيرهم بهذا الخصوص، فتجربة حزب العمال الكردستاني مع جماهيره ليست ببعيدة، إذ تهاوت جماهيرية الحزب عندما تغيرت المناخات والظروف، ولسنا هنا في وارد الدخول في تفصيل ما جرى. فالمسألة ليست بالشعارات والنفخ في (سقف) المطالب، وإنما في فاعلية تلك الشعارات وظروف نشأتها، ومن هنا يأتي دور القراءات الموضوعية والمتزنة لأنها أكثر إنتاجا من الهوبرة السياسية وأكثر انسجاماً مع ثقافة المرحلة وظروفها.
2- أصبح معروفا لدى السياسيين، حتى السذج منهم أن سياسة الانعزال غير مفيدة في هذه المرحلة، ولعل الأحزاب الكردية أكثر دراية بالعواقب التي قد تنشئ عن مثل هذه السياسة، ولأن تجربة العمال الكردستاني مازالت أمام الأعين، فهذا الحزب انعزل منذ بداية انطلاقه وبدأ ينشط منعزلا ومنفردا ونظر إلى كل الأحزاب الكردية لنفسه بأنها دون مستوى المطلوب، بما فيها أحزاب كردستان العراق، إذ كان يتهم الحزبين الكرديين الرئيسين في العراق بأنها تعمل بعيدة عن المطامح الكردية، وبالنسبة للأحزاب الكردية في سورية اتهمها بأنها أحزاب «كرتونية» وهي تناضل لتعديل سعر «البقدونس» ولتحسين «المجاري الصحية»، أما سبب ازدهاره (وكلنا يعرف) يعود إلى أن الظروف الإقليمية والوضع التركي والظرف الدولي كان لصالحه، فمن الأولى للسياسي الكردي الناضج والمسئول أن يقرأ تجارب الأحزاب الكردية على الأقل، وان لا يقع ضحية أخطائه وقصور رؤاه. ومن هنا من البديهي أن ننتظر من الحزبين الكرديين «يكيتي» و«آزادي» القراءة الموضوعية لظروف الأكراد وتجربة قواها السياسية وان لا يبقيان في دائرة الانعزال أكثر من اللازم.
دون شك إن إعلان دمشق، الذي حدد شرطي الانضمام إليه، الأول: ألا تكون هذه الجهة ضالعة في الفساد والاستبداد، والثاني: أن تلتزم برفض التدخل العسكري الخارجي، وأن تؤمن بالتغيير الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، ونبذ كل أشكال العنف، خلق نوعاً متقدماً من التفاعل السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد وأهميته تكمن انه يعمل بهدوء وتدرج بخطوات متزنة بعيدة عن الهوبرة السياسية. «إعلان دمشق» إنجاز مهم، ومن أنجزه يعطي لنفسه صورة النضج السياسي، ومرد أهمية هذا (إعلان دمشق) تكمن في كونها أول وثيقة جامعة في الوقت الذي تعيش فيه سورية وضعاً صعباً وأزمة حقيقية، وليست هناك مؤهلات للخروج إلا عندما تتحد القوى المجتمعية الحية لتكون ثقافة الشراكة بين مكوناتها هي السائدة، ولهذا فإن الإعلان أتى لصالح جميع مكونات المجتمع السوري، لأنه الإعلان الوحيد القادر على جمع كل الأطراف السياسية والمكونات المجتمعية والاثنية على الخروج بعدد من التفاهمات وهي تفاهمات لو تم استثمارها لخرجت سورية أكثر قوة ولأصبحت بلداً نموذجياً، ففي الإعلان تجد كل ألوان الطيف السوري العربي، الكردي ،الآشوري، اليساري، القومي وو... أما المكون الكردي: فالإعلان نقل القوى الكردية التي كانت عاجزة عن إيجاد طرف للحوار معه إلى دائرة أوسع وأجمع، فمع توقيع الكرد على وثيقة الإعلان أصبح باستطاعتهم التفاعل والتحاور مع أكثر من جهة.
بقي القول إن الإعلان بشكله الحالي ليس نهاية المطاف، لكنه فتح الأبواب على مصراعيها للتحاور والتشارك وهو يساهم في بناء الوحدة الوطنية المتّسعة لكل أبنائها.
إقرأ أيضا لـ "فاروق حجي مصطفى "العدد 1276 - السبت 04 مارس 2006م الموافق 03 صفر 1427هـ