بعد أن قرأت الشهر الماضي كتاب «الغريبة»، للمغربية مليكة أوفقير، اكتشفت أن لها كتابا أسبق باسم «السجينة»، تحدّثت فيه عن فرارها مع عائلتها من السجن.
مليكة كانت تكتب وحافزها الرغبة الشديدة في استعادة الحياة الطبيعية بعد سجنٍ طويلٍ طويل. وهي لم تكن سياسية ولم تشارك قط في مظاهرة أو انتمت إلى حركة تطالب بالحقوق، وإنما كانت طفلة مدللة في القصر. أخذها الملك محمد الخامس من والديها لتكون رفيقة للأميرة «للا مينة»، وبعد وفاته تكفل بها الملك الحسن الثاني.
في مطلع السبعينيات، اتهم أبوها الجنرال أوفقير (وزير الدفاع) بتدبير انقلاب وتم إعدامه لتنتهي قصته، ولكن لتبدأ قصة عائلته، في واحدةٍ من أغرب القصص. مأساة كاملة تتحدّث مليكة عن مراحلها بالتفصيل.
قبل عامٍ قرأت مذكرات ملك المغرب، «ذاكرة ملك»، ومن عادتي أني أحاول التعاطف مع الكاتب أثناء القراءة لأتفهم ما يقول، وبعد الانتهاء من الكتاب أعيد تقييم ما قرأت لأكوّن رأيا خاصا عن الموضوع. ولا أخفي أني تفهمت بعض مواقف الملك نوعا ما، وخصوصا في القضايا الجدلية في المغرب، رغم علمي بأن الكتاب مذكراتٌ أعدها كاتبٌ فرنسيٌ محترفٌ مهمته إيصال صوت الملك لتخليد صورته في التاريخ.
رواية «الغريبة» تعيد تشكيل صورة الملك وذاكرته في التاريخ، فمهما كانت الآراء والمواقف السياسية، فإنه لا يمكنك أن تتقبّل معاقبة عائلة معارض سياسي بمثل هذه القسوة غير المسبوقة. فليس هناك مبررٌ مقبولٌ لسجن أرملته مع أطفالها، ومنعها من رؤيتهم عدا طفلها الأصغر لمدة 11 عاما، ثم ليقضوا عشرين عاما معا وراء القضبان.
مليكة سُجنت وهي دون العشرين، وخرجت وهي تناهز الأربعين، وقضت خمس سنوات تحت الإقامة الجبرية، وحصلت على الجواز بعد خمس سنوات أخرى. كان عليها أن تبدأ حياتها من الصفر، حيث تملّكها الشعور بأنها في سجن أكبر. لقد تغيّر كل شيء... المجتمع، اللغة، السوق، حتى طريقة تسوق الناس في السوبرماركت. لم يعد لها أصدقاء، واختفت اللغة التي يمكن أن تشيع الدفء في حياتنا الإنسانية المشتركة.
مليكة تلمّست طريقها الوعر بين الصخور، والجسد الذي أنهكه السجن لم يعد قادرا على منحها أغلى هدية تتمناها كل نساء الأرض: طفل صغير. حتى التعرف على زوج المستقبل (الفرنسي) تطلّب وقتا لم تتخيّله بهذا الطول.
بغضّ النظر عن الظالم والمظلوم، أو الغادر والمغدور، استطاعت مليكة أن تعيد الاعتبار إلى أبيها بعد ثلاثين عاما، وقدّمت صورة بشعة مقابل الصورة الزاهية التي قدّمها الكاتب الفرنسي للشخصية المغربية الأولى. ومع ذلك تقول إنها أرادت فقط «أن تتخلص من الشقاء وتصبح طبيعية من خلال كتابة مذكراتها».
مذكرات مليكة اعتبرها البعض حدثا أدبيا استثنائيا، رغم ما كُتب من أدب السجون في المنطقة العربية المليئة بالمظالم والمخازي والتعديات على حقوق البشر. واليوم إذ يحتفل العالم باليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب، وتعتصم مجموعات متنوعة المشارب والتوجهات السياسية والفكرية من البحرينيين، من ضحايا فترة القمع، يخرج من يدافع عن تلك الفترة البائسة السوداء في تاريخنا الوطني بتبريرات أسخف من تبريرات سجن الأرامل والأطفال.
هؤلاء الفطاحل المتفلطحون لا يفيدون النظام السياسي بشيء حين يخلطون الرمل بالطحين. فنحن أمام ملفٍ يبلغ ضحاياه السبعة آلاف سجين، وهو رقمٌ ضخمٌ جدا مقارنة بعدد السكان. كلّ هؤلاء الضحايا ينتظرون من الدولة إنصافهم وردّ الاعتبار إليهم، والحقوق لا تزول ولا تتبخر... طال الزمن أو قصر.
الفطاحل قد يشوشون لفترةٍ بعض شرائح الرأي العام، وخصوصا تلك البعيدة عن الحراك السياسي، لكنهم لن يخدعوا أحدا في هذا البلد الباحث عن موطئ قدم تحت الشمس النظيفة
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2487 - الأحد 28 يونيو 2009م الموافق 05 رجب 1430هـ