لبنان الذي يتطلّع إليه العرب من قديم... باعتباره الواحة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي... تكدّرت صورته الجميلة هذه الأيام بسبب أخبار تساقط شبكات الجواسيس.
البلد العربي الصغير الذي هزم «إسرائيل» مرتين خلال ست سنوات، بينما هزمت «إسرائيل» الدول العربية الكبرى في ثلاث حروب خلال نصف قرن، حتى أصبح رمزا للمقاومة وأيقونة للتحرير... لم تعد أخباره اليوم تتصدّر الواجهة إلا لارتباطها باكتشاف مزيدٍ من العملاء الذين تسلّل بعضهم إلى مواقع قيادية في مؤسسات الدولة اللبنانية، المدنية والعسكرية.
من المفهوم أن تكون اليد الإسرائيلية وراء رواية «ديرشبيغل» باتهام حزب الله بقتل رفيق الحريري، لإشعال الفتنة بين السنة والشيعة، في لبنان وخارجه، ولكن من الصعب استيعاب أن تكون الساحة اللبنانية مخترقة بكل هذا الإيغال، وعلى هذه الرقعة الجغرافية والمذهبية الواسعة. ولعلَّ من حسن حظ لبنان أن المتورطين ليسوا من طائفةٍ واحدةٍ، وإنما يتوزّع عار العمالة على مختلف القبائل اللبنانية.
وأنت تتابع الفصول الجديدة لهذه الحرب الجاسوسية، تكتشف أنها تزداد إثارة مع الأيام، فالخيوط الأولى التي بدأت بسقوط تاجر سيارات بالضاحية، ثم ضابط متقاعد، ثم رئيس بلدية... انتهت إلى المؤسسة العسكرية التي ظلت في أشد فترات التوتر رمزا موحّدا يلتف حوله اللبنانيون.
الإيقاع بالعميد لم يكن سهلا، بحكم سمعته ومنصبه البارز في الجيش وما يحمله من نياشين آخرها لدوره في حرب نهر البارد، وما يمكن أن يثيره اعتقاله من هزّةٍ بين الضباط والجنود. ولذلك احتاج إلى قرارٍ من القيادة العليا الذي فتح الباب أمام مداهمة مكتبه ومنزله، لوضع اليد على الوثائق وأدلة الإدانة.
ورغم التكتم على اعتقاله، إلا أن الدمدمات ظلّت تسري في أوصال الجيش عن اعتقال «ضابط كبير»، وظهر حجمه الحقيقي بعد أسبوعٍ، فقد تولى مسئولية مدرسة القوات الخاصة في 2008، التي تُدرّب فوج المغاوير والقوة الضاربة وفرع مكافحة الإرهاب والتجسّس، ليكتشف اللبنانيون أن من يكافح التجسّس جاسوسٌ للعدو! من هنا اهتم الجيش بمعرفة ما قدّم للإسرائيليين من معلومات وخدمات، بحكم عمله بمختلف المناطق اللبنانية، وخصوصا مع ترجيح عمله معهم منذ منتصف التسعينيات. بل إن عمله بالبحرية يعيد التساؤل عن دوره في تسهيل إدخال الحقائب السوداء لبقية الجواسيس، بما تحتويه من «بريد قاتل»، من متفجرات وأسلحة وأجهزة تنصت وتصوير متطورة. وعليه يمكن إعادة طرح السؤال الكبير المشروع: ماذا فعل كل ذلك البريد والسعاة الأشرار في لبنان؟
في فترة الاحتلال الذي استمر 22 عاما، درّب الإسرائيليون آلاف اللبنانيين، الذين قاتلوا دفاعا عن المحتل، وكرها للفلسطينيين وللبنانيين الآخرين. وليس من طبيعة الأمور أن يتبخّر هؤلاء فجأة مع اندحار الاحتلال، أو يكتسبوا مشاعر الغيرة على الوطن، فلا غرابة أن نتابع منذ سبعة أسابيع، مسلسل تساقط الشبكات الجاسوسية.
الشبكة تكشف خرقا واسعا للجسد اللبناني الممزّق، فالمؤلم أن السكين اخترقت شرائح مختلفة ما يبعث على مزيدٍ من القلق والحيرة، فمن بين الجواسيس من يعمل قصّابا أو كهربائيا أو عاملا بالكراج، أو محاسبا في مستشفى حكومي أو عريفا بالجمارك، بل منهم من تعمل في صيدليةٍ أيضا. ومنهم من يعيش في الشمال أو البقاع أو الجنوب، وبعضهم جاء من المخيّمات.
إن صيف 2009، سيُذكر في التاريخ بجائحتين: انفلونزا الخنازير التي انطلقت من المكسيك، وانفلونزا الجواسيس التي تكشّفت في لبنان.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2456 - الأربعاء 27 مايو 2009م الموافق 02 جمادى الآخرة 1430هـ