لا يختلف اثنان على أن الحوار هو الآلية الوحيدة للخروج من تزاحم الاختلافات الفكرية أو السياسية أو غيرها عندما تزدحم على صفحات حياة المجتمعات البشرية، هذه الآلية تتمتع بدرجة عالية من المرونة وقابلية التشكل، لذا فإنه على الراغبين في توظيفها فيها، عليهم أن يمعنوا في صياغة خريطة تقود للوصول إلى نهايات واقعية يتراضى عليها المتحاورون.
وعملية الحوار مسألة تتسع وتضيق وفق طبيعة المشكلة أو الأزمة التي تختص بمعالجتها، فتكون سهلة هينة إذا كانت الأزمة بسيطة، وتكون معقدة وصعبة إذا كانت الأزمة شائكة ومتشابكة. وهنا يبرز دور مهندس العملية الحوارية ومدى قدرته ومهارته وإبداعه في صياغة خطوطها ومحدداتها التي يتركز نجاح العملية الحوارية عليها.
هناك فريق يفترض سلفا، أن الحوار يجب أن يكون في كل المواضيع، الجوهرية والفرعية، كما يفترض هذا الفريق آلية تتعارض مع طبيعة الموضوع، أو يعتمد آليات متعددة ومتعارضة مع بعضها البعض لموضوع واحد. ولا يعتبر هذا الفريق أن أطراف الحوار يجب أن تحدد سلفا، أو أنه لا يعير هذا المحدد أي اعتبار، كما أن نطاق الحوار هلامي، شاسع، فضفاض. والأهم بعد كل تلك المحددات الأساسية، فإنه لا يعتمد معيارا لقياس نتائج الحوار ومخرجاته، للوقوف على مدى تحقق النجاح، وهنا يتضح مدى خطورة هذا الخلط أو التخبط المنهجي أو الأدواتي.
وهناك فريق نجح في تحديد الموضوع، ولكن لم ينجح في تحديد اختيار الأكثر أهمية من بينها على سلم قائمة الأولويات، أي أنه يقدم موضوعا للحوار، هو في الأساس نتيجة لغياب الحوار في موضوع آخر. أي أنه اختار موضوعا فرعيا، وترك الموضوع الجوهري. وبصياغة أخرى، يمكن أن يؤدي الحوار في الموضوع الجوهري إلى التوصل إلى حل للموضوع الفرعي بسبب الارتباط التلقائي بينهما. ويضع هذا الفريق في منهجه الخطابي كمّا هائلا من الآليات والأدوات الحوارية التي لا تتعلق بطبيعة النهج الحواري الجاد، وإنما تساهم في ملء فراغات الخطاب بأدبيات المفاهيم الحوارية، ومفردات ألصق بالبلاغة منها بالتأثير على نتائج الحوار.
هناك من يضع سلامة ونجاح أو فشل الحوار في تحقق أو عدم تحقق أهدافه بطريقة أشبه ما تكون بالقياس المتري أو الجرامي أو وكأنه يقيس مواد ملموسة أو مادية، وبغير ذلك، فإنه يحكم على الحوار بالفشل وغياب الجدوى من العملية الحوارية برمتها. ولذا، فإن التحلي بالواقعية في اعتماد حجم التوقعات يلعب دورا مهما في النجاح، والسعي المرتكز على ذلك إلى الانتقال إلى المراحل اللاحقة. وخصوصا أن العملية الحوارية تعتبر عملا قيميا معنويا موضوعيا وليس عملا حركيا ماديا يمكن قياسه في الحال وبمقاييس ثابتة أو معيارية.
وعندما يرتفع سقف التوقعات لنجاح العملية الحوارية، فإن انفلات الفرقاء على بعضهم البعض، يصبح أمرا اعتياديا، بل بطوليا في كثير من الأحيان. ليس بعد فشل الحوار في مراحله النهائية بل في خلال جولات مراحله الأولية، ما يجعل سلوك المتحاورين وقدراتهم وحرفيتهم في الحوار عاملا سالبا في إصابة الحوار بانفلونزا الفشل.
الحوار في الشأن السياسي يمثل تركيبا معقدا من القوانين المعقدة المطلوب توظيفها لتجسير انشطارات الأفكار والمصالح والرؤى، وتناقضها أحيانا، وهو حزمة من الأعراف والمناهج والملكات الرياضية، كلها تشكل تراكما متجانسا يقبع ويترسب في ذوات المتحاورين. فيمكنهم من التحلي بمهارة تحكيم موازين القوى والمؤثرات السالبة والموجبة في شبكة معقدة من تضارب الأفكار والإرادات، ومؤثرات فعل الزمان واقتحام عامل المكان والبيئة، وتنوع الأطراف، وتداخلات المكنة الإعلامية، وطروء الحوادث والتطورات في كلٍّ يمر على مراحل الحوار فيما له علاقة بأصل موضوع الحوار وما ليس له علاقة من الأساس، كلها تمثل خلطة معقدة، تجعل من العملية الحوارية معادلة رياضية مفتوحة لا تنتهي بنتيجة محددة أو متوقعة، ولا يعرف إلى أين ستقود الأمور تلك النتيجة غير المتوقعة.
من أهم محددات عمليات الحوار أن تحدد المواضيع وتصنف على أساس النوع أو الحجم أو الجوهر أو كونها فرعا، فمن هذه المواضيع ما يمكن أن تستند إلى قوانين ومواثيق ومعاهدات وأعراف، ومنها ما يستند إلى وقائع وشواهد وأدلة وبراهين وقضايا وقائعية، ومنها ما يمكن أن يصنف في خانة إمكان التأجيل أو التأخير لحين إحراز تقدم في مواضيع معينة أو الانتهاء منها، لارتباطها الوثيق واعتمادها على إحراز النجاح في هذه المواضيع أو تلك.
كما أن هناك حوارا هادفا مفتوحا، وحوارا هادفا مغلقا: الأول يكون بين المذاهب السياسية والعلمية والدينية، ويهدف إلى كشف الحقائق وتسويق مفاهيم الرؤى الايديولوجية والفكرية أو الثقافية... ليتمكن هذا المذهب أو تتمكن هذه الايديولوجية أو تلك الثقافة من تكريس الحضور في الساحة الجماهيرية المحلية أو العالمية - حيثما نشطت الحوارات - لكسب التأييد والانتماء لهذا الطرف أو ذاك.
أما الثاني فإنه حوار بين الخصوم أو الأنداد في القضايا الخاصة الاقتصادية أو التجارية أو السياسية أو الإدارية العامة أو غيرها، ويهدف إلى التوصل إلى صيغة أو صيغ للتعايش والتفاهم والتعاطي في حالة من التوافق أو التراضي أو على أقل تقدير بعيد عن الاصطدام المستدام، وسيطرة الصراع والمواجهة، وهيمنة حالة اللااستقرار. وهذا النوع من الحوار ليس لكشف الحقائق لتسويقها وكسب التأييد فحسب، وإنما للأخذ بما يتم الاتفاق عليه والعمل به، لكونه يقود إلى الاستقرار وترسيم حدود الصلاحيات الإدارية والمهام والأدوار والمواقع القيادية وغيرها. وهو ما يعني به هذا الموضوع. وضرورة الهندسة السليمة لضمان نجاحه.
من أهم المفسدات الخارجية لعمليات الحوار، الانفتاح على الإعلام في مراحل تتابع جولات الحوار، غير المكتملة. والتزاحم من أجل الوصول إلى أدوات الإعلام ووسائطه، بشكل يعده البعض نوعا من الضغط على أطراف الحوار، وذلك من خلال الكشف عما تم التوصل إليه. من خلال التصريح أو الأعلان عن التوصل لهذا الحل أو ذاك، أو هذا الخيار أو ذاك. أو ربما الإعلان عن فشل هذه الجولة أو تلك، ما ينعكس سلبا على طبيعة التسلسل الطبيعي لجولات العملية الحوارية. كما أن التحليلات التي تأتي من خارج فرقاء التحاور، تؤثر في طبيعة النسق الحواري الذي يفترض به أن يمر ببيئة نقية صافية بعيدة عن المؤثرات الخارجية. فكلما كانت العملية الحوارية بعيدة عن مؤثرات الإعلام ووسائطه كلما حازت مساحة أكبر تسهم في إمكان نجاحها.
إقرأ أيضا لـ "هادي حسن الموسوي"العدد 2456 - الأربعاء 27 مايو 2009م الموافق 02 جمادى الآخرة 1430هـ