«القضاء على بؤر الشر والتوتر، ومكافحة الإرهاب، وتدمير أسلحة الدمار الشامل، وإحلال النظام الديمقراطي محل الديكتاتوري سعياً إلى إحلال العدالة والسلام في الشرق الأوسط»، هذه هي الأهداف المعلنة للإدارة الأميركية حينما أرادت تحشيد العالم والمكنة العسكرية لضرب العراق وإسقاط نظام البعث الحاكم آنذاك.
الجميع يؤمن بضرورة وأهمية إصلاح مثل هذه الأنظمة التي لم تجلب لشعوبها سوى الدمار والخراب وتكميم الأفواه وبث الرعب على مدى عقود، إلا أن السياسات الأميركية الهادفة - بحسب الظاهر - إلى دمقرطة الشرق الأوسط، تستوجب التشكيك فيها، وذلك لتأريخها القريب وتعاملها مع أنظمة وشعوب هذه المنطقة. فقد ظلت لعقود تدعم هذه الأنظمة وتدافع عنها، مع كامل علمها بأنها لا تقيم أدنى وزن لشعوبها، في الوقت الذي تمتلك القدرة على ممارسة الضغط لتصحيح أوضاع هذه البلدان. غير أنها ذهبت بعيداً في حمايتها، ووفرت لها الغطاء اللازم في المحافل الدولية، وعمدت أحياناً إلى إعادتها إلى الحكم من جديد بعد تمكن الشعوب من إسقاطها، كما حصل في إعادة شاه إيران إلى الحكم بعد أن أسقطه محمد مصدق في العام 1953، وكما حصل في العراق بالإطاحة بحكم عبدالكريم قاسم وإحلال أحمد حسن البكر العام 1968.
اليوم ونحن نشهد هذا التحول في الاستراتيجية الأميركية من دعم للأنظمة الديكتاتورية إلى محاربتها ظاهراً، والسعي إلى «دمقرطة الشرق الأوسط»، فكيف يمكن قراءة المشهد في العراق بالذات؟ وهل يمكن عزله عن بقية المشاهد في سورية، لبنان وإيران؟
إن التصريحات الأخيرة لمختلف المسئولين الأميركان تنبئ عن تحول في السياسة الأميركية، فحينما يصرح السفير الأميركي في العراق زلماي خليل زاد أكثر من مرة بأن وزير الداخلية العراقي وزير طائفي، وأنه لابد من تشكيل حكومة وطنية بعيداً عن الاستحقاق الانتخابي، وتأتي وزيرة الخارجية لتردد المقولة نفسها، ثم يأتي بول بريمر ليقول في مقابلة مع محطة «NNC» إنه «أخطأ في سن قانون اجتثاث البعث»، وأن العراقيين أساءوا الفهم والتفسير لهذا القانون، فماذا عسى أن يقرأ المرء في تلك التصريحات؟
هذا على الصعيد النظري، أما ميدانياً، فإن تزايد العمليات الإرهابية بعد الانتهاء من فترة الانتخابات وظهور النتائج الأولية التي دلت بوضوح على تفوق قائمة الائتلاف العراقي (129 مقعداً) فإن في ذلك ما يدعو إلى الشك والريبة، وخصوصاً إذا علمنا بأن المخابرات الأميركية مارست ضغوطاً كبيرة على وزارتي الدفاع والداخلية للحد من صلاحياتهما وقدرتهما على وقف العمليات الإرهابية. واعترف وزير الداخلية العراقي بعيد الهجمات الإرهابية الأخيرة بأن القوات الأميركية هددت قواته بأنها ستقوم بضربها في حال رفضت الاستجابة لأوامرها. وأوضح أنها أزالت الحواجز التابعة إلى وزارته التي كانت على جميع مداخل بغداد، ما سهل للإرهابيين سفك مزيد من دماء العراقيين، علاوة على أن الملف الأمني في الكثير من المناطق لايزال بيد قوات الاحتلال.
هذا المشهد إذا ما ربط بالمشاهد الأخرى في لبنان وسورية، وتهديد إيران بتحويل الملف النووي إلى مجلس الأمن، فإن الإدارة الأميركية تغذي الريبة حيال موقفها من مشروع «الدمقرطة» في الشرق الأوسط.
إن الحسابات الأميركية كانت خاطئة، بدءاً من ضرب العراق، وانتهاء بالرهان على محاصرة الإرهاب واجتثاثه فكانت النتيجة أن توسع الإرهاب وازداد عتوا وتطرفا، ثم راهنت على أن يفوز حلفاؤها بأصوات الناخبين، فخابت آمالها، إذ تصدر الائتلاف العراقي - الحلف التقليدي لإيران - قائمة الانتخابات، ما يعني أن قوة جديدة ستضاف إلى إيران وحلفاء إيران التقليديين (سورية وحزب الله).
إن أمام الولايات المتحدة فرصة تاريخية كبيرة لا تعوض - على الأقل في العراق - لأن تجعل من شعبه يثق بها ويؤمن بمشروعها، من خلال تعزيزها مبدأ الديمقراطية وتسليم الملف الأمني وجدولة الانسحاب، وهي لا ترغب في أن يأتي أميركي آخر ليقول: لماذا يكرهنا الشعب العراقي على رغم ما قدمنا إليه؟
العدد 1274 - الخميس 02 مارس 2006م الموافق 01 صفر 1427هـ