أيام قليلة وتبدأ زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى السعودية ومصر في جولة يقال إنها تستهدف تصحيح علاقات الولايات المتحدة مع دول المنطقة العربية بعد تلك الأعطال التي أصيبت بها بسبب سياسة «تيار المحافظين الجدد» في عهد جورج بوش الابن.
هناك مداخل كثيرة يمكن أن تشكل قنوات اتصال لإعادة الثقة المفقودة تبدأ بتوضيح الرؤية الجديدة في أسلوب التعامل الحضاري مع الإسلام والمسلمين والإقلاع عن استخدام تلك المصطلحات والمفردات التي تتهم الدين الإسلامي بأنه يروج لثقافة الكراهية والإرهاب والعنف وعدم التسامح. فهذه المبادرة التي وعد أوباما الجمهور الانتخابي خلال فترة التنافس على موقع الرئاسة بأنه سيتخذها في حال نجح في المعركة تشكل نقطة قطع مع مرحلة ونقطة وصل تؤسس معالم مرحلة مقبلة.
هذا الوعد الانتخابي يبدو أنه بات في طريق التحقق بعد أن أشارت مصادر البيت الأبيض إلى حرص الرئيس أوباما على الوفاء بوعده لمئات الملايين من المسلمين في العالم الذين تعرضوا لحملة تشويه وافتراء قل نظيرها في العقود الأخيرة.
الوفاء بالوعد الانتخابي يعطي فكرة عن سلسلة التزامات أميركية بشأن تصحيح العلاقات التاريخية مع دول المنطقة العربية - الإسلامية. وفي طليعة تلك الالتزامات إعادة قراءة الملف الفلسطيني الذي يشكل أولوية المشروع العربي في المرحلة الراهنة. وإعادة القراءة لا تعني بالضرورة الوقوع في فخ المبالغة في التوقعات ولكنها على الأقل تطمح بتدوير الزوايا وتصحيح رؤية اتسمت بالدعم المطلق لـ «إسرائيل» من دون حسيب أو رقيب.
الانحياز الكامل والشامل بات بحاجة إلى قراءة نقدية لأنه شكل تقليديا نقطة تجاذب سلبية بين الدول العربية والولايات المتحدة وأدى إلى تعطيل إمكانات تطوير العلاقات بناء على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. فالانحياز إلى «إسرائيل» يشكل نقطة ضعف في الإستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط» لأنه ساهم في استدراج واشنطن إلى خوض حروب بالوكالة بذريعة حماية الصديق التقليدي والحليف التاريخي وأدى إلى توليد شرارات العنف وتعزيز التطرف وتبريره ضد مصالح الولايات المتحدة في منطقة حيوية وغنية وواعدة وتتمتع بموقع جغرافي مهم على خطوط التجارة الدولية بين أوروبا وآسيا.
شكل الدعم الأميركي الأخرق لدولة «إسرائيل» زاوية في بناء لم يأخذ فرصته لاستكمال هندسته ما أدى إلى كشف العلاقات وتعريضها للقصف الدائم من مختلف الجهات صاحبة المصلحة في منع تطوير التفاهم بين الدول العربية والولايات المتحدة. وبسبب الموضوع الفلسطيني لعبت أميركا دور الشيطان الذي مارس مهنة المحاماة عن طرف لا يحترم كثيرا الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ومبادرات السلام العربية. وأدى الدور الأميركي في حماية «إسرائيل» والدفاع عنها من دون مبررات عقلانية إلى إنتاج سياسة غير مقنعة لشعوب المنطقة ما ساهم في تشكيل تيار مضاد يرفض «كل شيء» يأتي من الولايات المتحدة. فالعداء لم يصدر عن فراغ وفقاعات هوائية وإنما تأسس بالضد من منظومة علاقات سيئة بين واشنطن وتل أبيب كان من نتيجتها تزويد «إسرائيل» بالمال والسلاح والتغطية الإعلامية وتشجيعها على شن حروبها الكبيرة والصغيرة على الشعب الفلسطيني والدول المحيطة به.
تصحيح الصورة إذا يبدأ من فلسطين. فتلك البوابة تشكل نافذة تاريخية للتقدم الأميركي باتجاه شعوب المنطقة العربية - المسلمة. والصلة الخفية بين الإسلام وفلسطين تشبه كثيرا المولد الكهربائي في الاتجاهين السلبي والإيجابي. فالاعتذار من المسلمين يؤدي إلى فتح الباب على طريق تصحيح العلاقة باتجاه الموضوع الفلسطيني. وتوضيح الالتباس بشأن ملف التسوية في «الشرق الأوسط» يمهد الطريق نحو علاقات سوية ومحترمة مع المسلمين. وهذا النوع من الربط الكهربائي بين الطرفين يسهل الكثير من العقبات في وجه إدارة أميركية تعاني الكثير من المشكلات بدءا من أزمة النقد وانهيار الأسواق وانتهاء بالخروج المشرّف من أفغانستان والعراق.
علاقة الإسلام بفلسطين ليست جديدة ومفتعلة فهي تشكل لحظة تاريخية في الذاكرة ونقطة اتصال بين المشرق والمغرب ومحطة ارتكاز وعبور للديانات السماوية الثلاث. وبهذا المعنى التاريخي - الجغرافي يمكن للرئيس أوباما أن يقرأ الكثير من التحولات لمصلحة الجانب الأميركي في حال نجح في تصحيح ميزان العلاقة في خطابه الذي قرر توجيهه للعالم الإسلامي من القاهرة حتى لو كانت عناصر الخطاب عامة وسريعة ومختصرة.
المصلحة الأميركية باتت تتطلب التوضيح والتصحيح لأن الكلفة التي دفعتها واشنطن لتعزيز وحماية مشروع استيطاني على حساب شعب يسكن ويملك تلك الأرض لم تعد مجزية ومربحة في مرحلة تشهد المنطقة تحولات تقتضي الانتباه إلى أبعادها ووظائفها ونتائجها. والخسائر التي دفعتها الولايات المتحدة ماديا وبشريا ومعنويا لتحصين مشروع التوسع والاستيطان والطرد والتهجير لا تستحق كل هذه التضحيات في مواجهة شعوب لا تكره أميركا ولا تحقد عليها إلا لدوافع سياسية.
أهالي المنطقة العربية - الإسلامية لا يحسدون الولايات المتحدة على نموذجها ونجاحها كما حاولت أيديولوجية «تيار المحافظين الجدد» أن تروج في حملة التحريض والتشهير ضد الشعوب المسلمة. فالحسد ليس ثقافة بقدر ما هو ردة فعل طبيعية على سياسة اتبعتها الإدارات الأميركية خلال 60 عاما. ولاشك في أن وقف هجمات الافتراء ضد المسلمين منذ انهيار إدارة بوش يعتبر نقطة إيجابية في عهد أوباما وخصوصا حين تصدى في مواجهات علنية ضد تلك الخطابات والمقالات المضادة التي صدرت عن نائب الرئيس السابق ديك تشيني. إلا أن وقف الحملات والرد على بقاياها لا قيمة لها إذا لم تترافق حركة التصحيح مع توضيحات تتصل بالموضوع الفلسطيني وارتباطه بالإطار الإسلامي - العربي العام. وهذا التوجه المختلف في جوهره السياسي - الثقافي هو ما تحتاج المنطقة إلى سماعه من خطاب أوباما في القاهرة.
أيام قليلة تفصل أوباما عن الرابع من يونيو/ حزيران. وشعوب المنطقة لا تنتظر انقلابات أو قراءات خارج نطاق المألوف أو فوق التوقعات إلا أنها تطمح إلى رؤية مشروع عادل يضبط التوازنات ويمنع التطرف ويحاصر الإرهاب ويرسم خريطة طريق تعطي صاحب الحق حقه بعيدا عن تلك السياسة الأميركية التي بالغت في الانحياز وأفرطت في استخدام القوة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2456 - الأربعاء 27 مايو 2009م الموافق 02 جمادى الآخرة 1430هـ