بسقوط الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات، سقط عمليا النظام الاشتراكي الشيوعي، فأصيبت الحضارة الغربية وفكرها الليبرالي بانتفاخ زائد في الذات، طالما حجَّمه النظام الشيوعي وحد من غلوائه، وبدأ عصر الأحادية القطبية. وعلى إثر ذلك برزت نظرية «صراع الحضارات» بقوة، التي ابتدعها الأميركي صامويل هانتنغتون. في المقابل، كان هناك صوت الرئيس الإيراني السابق السيدمحمد خاتمي حين دعا إلى «حوار الحضارات»؛ فتبنت الأمم المتحدة هذه الدعوة وجعلت العام 2001 دعوة إلى حوار الحضارات.
قد لا يكون ما جاء به هانتنغتون نظرية بقدرما هو تنبؤ ودعوة إلى إنهاء الصراع لصالح الليبرالية الغربية قبال الحضارة الإسلامية بالذات، إذ يقول: «يعتبر التفاعل بين الإسلام والغرب صدام حضارات»، لكن من حيث واقعية كلا الاتجاهين، صراع الحضارات أو حوار الحضارات، فإن هانتنغتون يبدو أكثر واقعية من السيد خاتمي، ولا يعود ذلك لصحة نظرية صراع الحضارات كنظرية، ولكن صناعة الواقع لا علاقة له بالصحة أو الخطأ بقدر ما هو متعلق بموازين القوى، ومرهون بيد الأقوياء، وهؤلاء الأقوياء متحمسون - كما يبدو - لتطبيق نظرية صراع الحضارات، لهذا يظهر هانتنغتون مصيباً، والصدام محتدم لا محالة، وقد تكون أزمة الرسوم الكاريكاتورية التي أساءت لمقام النبي (ص) إحدى مظاهر هذا الصراع المحتوم.
المعادلة سهلة جداً، ولا تحتاج إلى طويل تفكير وتأمل، فخاتمي أتى بمجرد دعوة إلى الحوار لا أكثر ولا أقل، ولكن الحوار يتطلب رضا ومبادرة من طرفين، وليس من طرف واحد، وقناعة أحد الطرفين بضرورة الحوار لا تكفي لإبطال قنبلة الصراع من الانفجار، فهو أشبه بحب من طرف واحد، طرف يكاد يموت شوقاً لرؤية وجه من يحب، والآخر في خبر كان عن حال صاحبه، وكذلك فإن مجرد رغبة طرف واحد في السلام وأخذ الحيطة لنفسه لا يمنع من حدوث الاشتباك.
قبل سنوات، كانت هناك امرأة فقيرة من نساء الريف، تنتظر الحافلة مع ابنتها الصغيرة، فلم ينفعهما التجاؤهما لمحطة النقل العام التي كانت تقع بعيداً عن الشارع الرئيسي، فقد فاجأهما سائق آسيوي حاول تجنب سيارة أخرى، فانحدر بسيارته عن الشارع الرئيسي ليصطدم بالأم وابنتها ففارقتا الحياة في الحال، وهي صورة أخرى لما يحدث الآن، فالمسلمون يحتاطون ويبتعدون عن أسباب الصدام ويدعون إلى الحوار، أما الغرب فيتقدم حثيثاً نحو الصدام، وكلما تقدم الغرب تراجع المسلمون ليتفادوا الصدام، ولكن هل سيستمر التراجع إلى الخلف من دون الالتفات إلى خطر السقوط إلى الهاوية؟
ما لم يغير الغرب مفاهيمه عن إمكان التعايش مع الآخر، فإن ممارساته الاستعلائية والمتوجسة من الآخر ستستمر، ولن تقف عند حد احتلال بلد أو بلدين، فلا يقبل الغرب بأقل من رأس الإسلام، وبالتالي ليس أمام المسلمين سوى خيارين: القبول الذاتي بالسقوط إلى الهاوية، وهذا يعني تنازل المسلمين عن عقائدهم وفكرهم من أجل دين الغرب الجديد، المتمثل في الحرية الفردية أو الليبرالية. وأما الخيار الآخر فهو الاصطدام، وهو الراجح نتيجة رغبة الطرف الأقوى في إحداثه من أجل فرض أنموذجه في الحياة، ومن هنا تكمن صحة نظرية صدام الحضارات
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1274 - الخميس 02 مارس 2006م الموافق 01 صفر 1427هـ