«الإسلام هو الحل» ليس شعاراً جديداً اخترعته مجموعات من النخب المعاصرة تنتمي إلى جماعات سياسية حديثة العهد. فهذا الشعار مستعار من تاريخ المنطقة أعيد تجديده وعادت إليه الأحزاب والمنظمات الإسلامية في عصرنا لكونه البديل التاريخي عن فشل «الحداثات العربية» وتهافت منظوماتها الفكرية والتنموية.
«الإسلام هو الحل» فكرة تأسست في ضوء التحولات القسرية التي تعرضت لها المنطقة منذ القرن الخامس عشر. وجاءت الفكرة للدفاع عن هوية جامعة بدأت تغيب عن مسرح التاريخ لتحل مكانها مجموعة هويات أخذت تزعزع توازن المنطقة بفعل الضربات العسكرية التي تلقتها الجيوش المسلمة على حدود الأمة مضافاً إليها تلك التحديات التي واجهتها الدولة (والدين أيضاً) على ضفاف حضارة جديدة أخذت تنمو وتتضخم وتنقلب عليها وتطردها وتطاردها سياسياً من الهند إلى إسبانيا ومن المغرب إلى أوكرانيا وقزوين.
في ظل هذه التعبئة الداخلية والضغوط الخارجية شهدت المنطقة العربية/ الإسلامية ظاهرة نمو اعتراضات على التخلف ودعوات إلى الإصلاح أو التحديث. دعوات الإصلاح الديني قادها محمد بن عبدالوهاب وتعتبر حركته علامة على بدء الإحساس بوجود مشكلات تعوق الإسلام وتعطل موقعه ودوره. ودعوات التحديث قادها والي مصر علي بيك الكبير وهي أيضاً تعطي فكرة عن ذاك الشعور الذي بدأ ينمو في أوساط الدولة عن وجود حال ضعف ونقص في الاستعدادات لمواجهة المخاطر الكبرى.
بدأت الدعوة الوهابية (وهي حركة إصلاحية دينية في جوهرها الاجتماعي) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. كذلك ظهرت تحركات علي بيك بعد تلك الفترة بقليل وهي أيضاً حركة إصلاحية سياسية في جوهرها الاجتماعي.
بدأ ابن عبدالوهاب حركته في نجد حين دعا إلى العودة إلى أصول الدين معتبراً أن هناك الكثير من البدع دخلت على مذاهبه وفرقه أسهمت في تهميش دور الإسلام وتعطيل موقعه في قيادة الدولة. وشكلت الدعوة في بدايتها قوة جذبت إلى صفوفها الكثير من الأنصار لكنها هددت غيرها من المذاهب والفرق فتألبت عليها القوى، الأمر الذي دفع قائدها إلى التحالف مع أمراء آل سعود لمواجهة الضغوط. ونجحت الدعوة في إثبات وجودها حين قام أمير نجد محمد بن آل سعود بمبايعة ابن عبدالوهاب إماماً في العام 1745 (1158هـ).
منذ وصول ذاك التحالف تشكلت في تلك اللحظة التاريخية قوة جديدة تألفت من ثنائية قبلية (العصبية النجدية) ودينية (دعوة الإصلاح). ودعت هذه الثنائية الناس إلى العودة إلى أصول الإسلام. ونجحت هذه القوة الصاعدة في النمو وبسط نفوذها على نجد وثم معظم الجزيرة العربية مستخدمة شوكة آل سعود وقوتهم العسكرية. واستمر هذا التحالف العصبي - الديني في التقدم وفرض نفوذه على معظم قبائل نجد حتى بعد رحيل ابن سعود في العام 1765 (1179هـ) تاركاً المهمة لابنه عبدالعزيز الذي تابع مسيرة والده انطلاقاً من تعزيز ونشر أفكار الدعوة الوهابية.
العودة إلى ينابيع الإسلام فكرة ليست جديدة إذاً، فهي جاءت على موجات متتالية ونهضت أصلاً للرد على تلك الانهيارات العامة التي أصابت السلطنة في جبهات القتال وطاولت قدراتها الإنتاجية وعطلت إمكانات التوحيد السياسي على المستويين: الدولة والمجتمع.
تشبه حركة ابن عبدالوهاب كثيراً في مظاهرها الشكلية تلك الحركة الإصلاحية التي قادها مارتن لوثر في ألمانيا في القرن السادس عشر. فالتشابه في الاتفاق على ضرورة الإصلاح انطلاقاً من العودة إلى جوهر الدين وينابيعه الأولى. إلا أن الزمن بين الدعوتين اختلف، فحركة لوثر جاءت في لحظة كانت فيها أوروبا تتقدم وتزدهر وتنمو عمرانياً ومعرفياً، فشكلت بذلك علامة فارقة في تكوين وعي ديني جديد يتناسب مع الشروط الموضوعية التي أنتجها التطور. بينما جاءت حركة ابن عبدالوهاب في لحظة كانت السلطنة تتراجع وتفقد زمام المبادرة وتخسر مواقعها العسكرية وتنكمش عمرانياً ومعرفياً. وبسبب اختلاف شروط الاجتماع اختلفت النتائج التي حققتها كل من الحركتين الإصلاحيتين. ففي أوروبا تحالفت الحركة البروتستنتية مع القوى الاقتصادية الجديدة وشكل الإصلاح الديني الغطاء الشرعي (التاريخي) لنمو علاقات اجتماع تبحث عن وظيفة سياسية (دستورية) تضمن تمايزها عن المؤسسات التقليدية وفي طليعتها الكنيسة الكاثوليكية.
شروط الاجتماع هذه لم تتوافر للدعوة الوهابية في نجد. فجاءت حركة الإصلاح مقلوبة نظراً إلى الظروف التي أحاطت بها وفرضت تصوراتها عليها. وبسبب اختلاف الزمن اختلفت قاعدة الاجتماع البشري (العمراني) بين الدعوتين الإصلاحيتين، وهذا ما دفع المؤرخ الاجتماعي العراقي علي الوردي إلى القول بأن الدولة السعودية الجديدة في الجزيرة العربية هي آخر مظاهر تشكل الدول الإسلامية وفق النموذج الخلدوني. فابن خلدون أشار في مقدمته إلى أن الدولة تحتاج حتى تنهض إلى قاعدتين: العصبية والدعوة. وهذا ما قصده الوردي حين أشار إلى النموذج الخلدوني. فالدعوة الوهابية اعتمدت على عصبية اجتماعية. والعصبية الاجتماعية في نجد هي القبيلة وشوكتها كانت قيادة آل سعود.
هذا الفارق إذاً بين الدعوتين الإصلاحيتين يعود إلى اختلاف شروط الاجتماع بين مكانين في ظرف زمني كانت فيه أوروبا تتقدم والسلطنة تتراجع. وبسبب هذا التكوين الموضوعي في الجغرافيا والاجتماع والزمن تقدمت البروتستنتية لتكتسح نصف القارة وتنتقل مع الاكتشافات الجغرافية إلى أميركا الشمالية، بينما اقتصر تأثير الوهابية على حدود معينة لم تتجاوز الإطار العام للجزيرة العربية.
إلا أن الدعوة الوهابية في انطلاقتها الأولى تعتبر من الدلالات المبكرة التي أشارت إلى وجود خلل في بنيان الدولة وضعف عام أخذ ينتشر في أطراف السلطنة، ويؤثر سلباً على دور الإسلام في صون الهوية الجامعة للأمة. وظهور هذه الدعوة في مثل هذه الفترة بالذات يشير إلى مدى احساس النخب الدينية بوجود مأزق. لكن النوايا الطيبة ليست كافية لإنقاذ الوضع من الانهيار. فالظروف الموضوعية أحياناً أقوى من الحواس وهي في النهاية تفرض شروطها وتحدد الأطر الاجتماعية للنمو أو التراجع. وبسبب اختلاف ظروف المكان وتفاوت نمو العمران أصابت الحركة البروتستنتية النجاح في غرب أوروبا وشمالها لأنها شكلت تلك الحاضنة التاريخية للرأسمالية الحديثة بينما الحركة الوهابية لاقت صعوبات في دائرتها ومحيطها نظراً إلى الضعف الذي أصاب العمران في المنطقة. فالحركة الوهابية إصلاحية في جوهرها الاجتماعي لكنها عقائدياً كانت تمثل نزعة إحيائية (إحياء علوم الدين) وفق الضوابط التي مثلتها الاجتهادات في السنة الصحيحة. وهذه المسألة شكلت نقطة اضافية عطلت إمكانات صعود الدعوة إلى تلك المرتبة التي مثلتها البروتستنتية في أوروبا.
لم يقتصر الإحساس بوجود مشكلات في مستوى القاعدة الشعبية (الجماعات الأهلية) بل انتقل ذاك الشعور إلى أمراء السلطنة العثمانية. ففي الوقت الذي استقرت فيه الدعوة الوهابية في الدائرة الجغرافية للجزيرة العربية في نهايات القرن الثامن عشر تحركت مصر من جانبها وبدأ زعيم المماليك علي بيك الكبير يحشد قواه ضد الوالي العثماني مطالباً بعزله.
تشكل حركة علي بيك بدايات اكتشاف ذاك الخلل العام الذي ظهر في ضعف أمراء السلطنة وعدم قدرتهم على مواجهة التحديات والرد على الحاجات الفعلية التي أخذت تضغط على الجماعات الأهلية. فالحركة الوهابية في الجزيرة العربية كانت مبكرة حين عبّرت في دعوتها عن ذاك الإحساس بوجود ضعف نتيجة الابتعاد عن جوهر الدين وأصول الإسلام. وحركة علي بيك في مصر جاءت بعد 30 عاماً لتطرح الأسئلة نفسها من موقع الدولة. فالوهابية حركة صعدت من المجتمع إلى الدولة حاملة معها شروط الاجتماع (القبيلة) وحركة علي بيك انبثقت من الدولة وضدها متوجهة إلى الجماعات الأهلية طالبة الدعم لإنقاذ الأمة من الانهيار والتفكك.
لم تنجح حركة علي بيك الكبير لأنه دخل في مواجهات عسكرية مع السلطنة بعد إقدامه على عزل الوالي العثماني في مصر في العام 1773 (1187هـ). فالمواجهات كانت أقوى منه ولم تنفع اتصالاته مع أمراء بلاد الشام في إنقاذه. كذلك لم تخدمه كثيراً مبايعة شريف مكة المكرمة له سلطاناً على مصر. فالسلطنة حركت قواها وقواتها وأسقطته عن الحكم الذي شهد في عهده القصير محاولات تحديث تعبّر عن بدايات إحساس عميق بوجود أزمة حقيقية تهدد قوة الأمة وعدم قدرتها على تحمل تبعات المواجهة مع مخاطر مقبلة إليها من خارج الحدود والبحار.
هذه التحركات شكلت على أنواعها السياسية والدينية إشارات مبكرة إلى الإحساس بالأزمة، فهي في معنى ما تدل على وجود إرهاصات وعي أخذت تضغط على الطليعة (رجال الدولة ورجال الدين) تدفعهم إلى التحرك لإنقاذ الهوية من الضياع والأمة من الهلاك.
هذا الإحساس بالخطر لم يتولد من فراغ سواء تلك التي عبّرت عنها الدعوة الوهابية انطلاقاً من نجد أو تلك التي ظهرت في مصر وبلاد الشام من خلال الحركة السياسية التي قادها علي بيك الكبير. فآنذاك كان المركز (السلطنة العثمانية) يتعرض لضربات عسكرية قوية وتفرض عليه الدول الصاعدة سلسلة تراجعات وتنازلات كشفت عن ضعف البنى العمرانية التي تأسست عليها تاريخياً هذه القوة العظمى. فالسلطنة خلال هذه الفترة الصعبة وبعدها دخلت في حرب كبرى مع روسيا القيصرية في محطتين تاريخيتين قادهما بطرس الأكبر وكاترين الثانية. فآنذاك أخذت هذه الدولة الجبارة عسكرياً تبسط نفوذها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وتحولت إلى أكبر دولة في العالم بمساحتها الجغرافية (ولاتزال حتى أيامنا). وبسبب نمو هذه القوة العسكرية وتوسعها الجغرافي اصطدمت بطبيعة موقعها مع السلطنة العثمانية ودخلت معها في مواجهات امتدت من 1768 (1182هـ) إلى العام 1774 (1188هـ). ففي هذا العام اضطر الباب العالي إلى توقيع معاهدة كتشك قينارجي تخلت السلطنة بموجبها لروسيا عن المناطق الشمالية للبحر الأسود وانسحب من مناطق سلوفينيا في البلقان.
لم يتوقف التراجع العثماني عند هذه الحدود. فبسبب ضعف الباب العالي ازدادت الضغوط وتنافست الدول على انتزاع تلك المناطق التي تسيطر عليها السلطنة. فشهدت تلك الفترة في نهايات القرن الثامن عشر مواجهات دولية اختلطت فيها التحالفات الأوروبية وتنوعت بسبب المخاوف التي أصابت دول القارة من نمو القوة العسكرية لروسيا القيصرية وطموح موسكو لمدِّ نفوذها إلى المياه الدافئة. وهذا النوع من التوازن السلبي في تنازع القوى الحديثة دفعت ثمنه السلطنة فاضطرت بعد سنوات إلى تقديم تنازلات إلى روسيا حين عاودت هجومها في العام 1787 (1201هـ) وأخذت تضغط عسكرياً إلى أن وافق الباب العالي في العام 1792 (1206هـ) على التنازل عن الشواطئ الغربية للبحر الأسود إلى حدود نهر الدنيستر.
أرهقت هذه الحروب السلطنة العثمانية وأوقعت الباب العالي في مشكلة ديون أضعفت خزينة الدولة وباتت عاجزة عن تمويل حاجاتها العسكرية، الأمر الذي اضطرها إلى الاتكال على دعم محاور أوروبية لحمايتها من الضغوط معطوفاً على زيادة الضرائب وإهمال العمران وحاجات الناس.
وفي أجواء هذا الضغط تحركت القاهرة ثانية وانتفضت الجماهير بقيادة إمام جامع الأزهر الشيخ الشرقاوي في العام 1795م (1209هـ). هذه الانتفاضة ليست مهمة فهي استمرت ثلاثة أيام فقط ونجحت في فرض شروطها وانتزاع مطالبها من الوالي العثماني. فمثل هذا النوع من الانتفاضات يحصل عادة ويتكرر دائماً. الجديد فيها أنها حصلت في ظروف دولية مختلفة. فهي جاءت في لحظة ضعف عام أصاب المركز (السلطنة) وحصلت بعد اندلاع ثورة الاستقلال في أميركا والثورة الجمهورية في فرنسا. وهذا المناخ الجديد أعطى نكهة مختلفة لانتفاضة الأزهر وبروز موقعه الديني في قيادة الجماهير دفاعاً عن الإسلام وهويته. وتقدم رجال الدين صدارة المعركة ضد الظلم والطغيان والاستبداد كان إضافة نوعية جديدة على مشهد سيتكرر لاحقاً.
انتفاضة الأزهر تلاشت بسرعة إلا أنها ستعود مجدداً للنهوض في مواجهة حدث سيكون له وقعه التاريخي الكبير على المنطقة والسلطنة: حملة نابليون بونابرت على مصر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1274 - الخميس 02 مارس 2006م الموافق 01 صفر 1427هـ