الغضب الشعبي في إيران أخذ يستقر وبدأ الهدوء يعود إلى الشارع. ونجاح أجهزة الدولة في السيطرة على انفعالات الناس واحتجاجاتها على نتائج الانتخابات الرئاسية يفتح الباب أمام فصل جديد من الأزمة السياسية التي تولدت في الأسبوعين الماضيين. فالأزمة الآن انتقلت من الشارع إلى النظام ويرجح أن تأخذ المزيد من الوقت لاحتواء تداعياتها حتى لا تتدحرج باتجاه منطقة خطرة تعطل إمكانات الحل العقلاني (التسووي التصالحي).
الأزمة مفتوحة على السياسة وهذا الأمر يتطلب إعادة قراءة ما وقع من حوادث والاستفادة من سلبيات التجربة واستخلاص العبر والدروس والبناء عليها بقصد تصحيح المعادلة وعدم الانزلاق مجددا في «المستنقع».
القراءة ضرورية ولكنها لن تكون متوازنة إذا لم تعرض كل وجهات النظر التي تضاربت وتخالفت في تعاملها مع الأزمة. فما حصل ليس حادثا بسيطا لا يستوجب التوقف والتمهل والتدقيق وملاحظة المفارقات والتعلم من دروس التجربة وإعادة توظيفها لتحسين صورة المشهد الذي امتد إلى مشارق الأرض ومغاربها.
خلال الأسبوعين الماضيين حصلت قراءات كثيرة ومتخالفة للأزمة الإيرانية، وهي في مجموعها تشكل رؤى للحوادث من زوايا متعاكسة يمكن تلخيصها كالآتي:
أولا، هناك فريق أنكر وجود أزمة لا من قريب ولا من بعيد. واعتبر أن الكلام عن أزمة مسألة مختلقة وهي نتاج توهمات تولدت من مخيلات غير واقعية وليست موجودة أصلا في العالم المرئي والمشاهدة.
ثانيا، هناك فريق رأى أن الأزمة مفتعلة وهي نتاج تصورات مضخمة ساهمت وسائل الإعلام في ابتكارها واختراعها وإعادة بثها لتشويه صورة تنعم بالهدوء والاستقرار والسكينة.
ثالثا، هناك فريق أقر بوجود أزمة ولكنه ربطها بمؤامرة أجنبية وخطط مبرمجة ومنظمة من الخارج أرادت تقويض النظام من الداخل وإحباط مشروعه.
رابعا، هناك فريق بالغ بالمراهنة على الأزمة واعتبر أن ما يحصل في إيران بداية تغيير كبير لن يتوقف قبل سقوط النظام برمته.
خامسا، هناك فريق اعتبر أن الأزمة محلية وهي تحصل في كل البلدان والدول ولذلك تشترط أن يتم التعامل مع عناصرها بعقلانية وبتواضع لمنع تدحرجها وانزلاقها باتجاه يعطل لاحقا إمكانات احتواء عواملها وأسبابها المتفجرة.
خمس قراءات متخالفة تعاطت مع الأزمة الإيرانية. الأولى أنكرتها، الثانية اتهمت وسائل الإعلام بافتعالها وتضخيمها، الثالثة أقرت بوجودها واتهمت الخارج باختراعها لإرباك إيران من الداخل، الرابعة بالغت في المراهنة على سقوط النظام برمته من إدراك لخصوصية العلاقات التي تربط أجنحة الدولة، والخامسة اعتبرت أن الأزمة محلية الصنع وكان بالإمكان تجاوز تداعياتها لو تم التعامل بشفافية وروح نقدية مع قوى الاعتراض وهذا لم يحصل ما أعطى فرصة للخارج بالتدخل الإعلامي بقصد الضغط وإضعاف الدولة وموقعها الإقليمي في عملية التفاوض.
المحصلة للمجموع العام لمختلف القراءات ترسل مادة خصبة لإعادة ترتيب منظومة الرؤية وفق معطيات داخلية وجوارية وإقليمية ودولية. والمحصلة لا شك ستكون غنية في معلوماتها وقد تتحول إلى قيمة مضافة يمكن أن تساعد القيادة السياسية في طهران على دراسة النتائج والتأسيس عليها لتصحيح تلك العلاقات المتأزمة بين قادة الثورة وأجنحة الدولة. فما حصل ليس بسيطا ويمكن أن يشكل فرصة لإعادة إنتاج خطاب سياسي تصالحي مع الداخل والخارج والإقلاع عن لغة المزايدات (قنابل صوتية) التي تنتهي غالبا في قاع الاتهامات والتخوين.
لغة بخارية
تصحيح خطاب التعامل مع العالم يمهد الطريق باتجاه تصويب لغة التعاطي مع الداخل. فالكلام الذي أطلقه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بعد انتخابه في الدورة السابقة بشأن حرق تل أبيب وتدمير «إسرائيل» ومسحها من الخريطة مضى عليه حتى الآن أربع سنوات ولم يتحقق طبعا. فهذا الكلام سبق وأن قاله أحمد سعيد في تعليقاته اليومية من إذاعة «صوت العرب» المصرية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وانتهى إلى كارثة عسكرية أحبطت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. والكلام نفسه ردده مرارا أحمد الشقيري حين كان رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية وانتهى الأمر بالانقلاب عليه وإزاحته عن الشاشة السياسية.
الكلام عن التدمير والحرق والمحرقة والمسح والاقتلاع يكسب قلوب الجماهير العربية ويضعها في السحاب ولكنه يعطل عليها إمكانات التفكير والتدقيق والتأني وعدم المغامرة والانزلاق نحو توهمات لا صلة لها بالعقل والواقع.
مشكلة هذا الكلام الخطابي أنه عمليا لا يتحقق ضد العدو والخصم ولكنه فعليا يرتد إلى الداخل وينعكس سلوكا عصبيا ضد الأهل والأصدقاء والأحباء وكل من يريد الخير لإيران ونظامها الجمهوري. والمشكلة الأسوأ في مثل هذه الخطابات النارية أن الناس تنسى من قالها وضد من توجهت في الأصل ما يؤدي إلى عدم المحاسبة عليها والتساؤل بشأن عدم تنفيذها. والأسوأ من الأسوأ أن هذه اللغة غير المسئولة تبدأ ضد الخارج وتنتهي ضد الداخل. والناس الأبرياء يتناسون أن إيران غير «إسرائيل» وأن طهران غير تل أبيب.
اللغة الغاضبة تصدر دائما عن عقل غاضب. والعقل الغاضب يثير المشكلات لأهل الدار مع العالم والجيران في الطور الأول قبل أن ينعزل إلى الداخل ويبدأ في الطور الثاني بإثارة المشكلات لأهل الدار أنفسهم على قاعدة اللغة الغاضبة نفسها. الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج لا تسأل الآن لماذا لم يتم تدمير «إسرائيل» وحرق تل أبيب؟ والجماهير نفسها لا تحاسب على عدم تنفيذ التهديد الذي أطلق في العام 2005 وأدى إلى ما أدى إليه من ردود فعل عالمية انصبت لمصلحة حكومات تل أبيب ما جعل رئيس «الموساد» الإسرائيلي السابق يعتبرها «هبة من السماء».
كل هذا ليس مهما الآن بعد الأزمة التي هبت على إيران من الداخل وأثارت احتجاجات عنيفة واتهامات متبادلة تستلهم مفرداتها من تلك اللغة الغاضبة التي سبق وأطلقت كلاميا ضد تل أبيب و«إسرائيل» قبل أن تنقلب على الداخل. حكومة بنيامين نتنياهو تنظر الآن إلى المشهد الإيراني وهي لا تخفي سعادتها وسخريتها وشماتتها من كلام إعلامي (قنابل صوتية) ارتد عمليا في المكان الآخر والمضاد وضد أهل الدار.
لاشك أن دول الاتحاد الأوروبي وأميركا تراقب وترصد وتتابع المشهد الإيراني من دون أوهام ومراهنات. فهذه الدول تحاول قدر الإمكان قراءة الصورة من مختلف زواياها لإعادة ترتيب سياسة التطبيع مع إيران ضمن شروط مختلفة عن السابق. ما حصل أضعف طهران وأربكها وهذا يتطلب فعلا تأسيس قراءة موضوعية ومتواضعة وعقلانية تستخلص الدروس والعبر من التجربة حتى لا تتبخر النتائج وتتلاشى في إطار لغة غاضبة تثير زوبعة إعلامية وتشد الانتباه من دون فائدة عملية ولا قيمة اعتبارية.
هناك قراءات خمس خرجت علنا تعليقا على الأزمة الإيرانية وهي كافية للتعلم والاستفادة. أما الاختيار والمفاضلة والمقارنة والمقاربة بين هذه القراءة أو تلك فإنها تعود في النهاية للقيادة السياسية الإيرانية وقراراتها و... «أهل مكة أدرى بشعابها»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2487 - الأحد 28 يونيو 2009م الموافق 05 رجب 1430هـ