المشروع الأميركي لتدويل قضايا «الشرق الأوسط» يمكن تصور ملفاته كأحجار «الدومينو» إذ كل قطعة تعتمد على أخرى وإذا انهارت واحدة تتداعى الأخرى آلياً.
في السودان تدفع واشنطن نحو تدويل أزمة دارفور من خلال الضغط المستمر لإفشال «الاتحاد الإفريقي» وإخراج قوات دوله من الولاية حتى تعطي ذريعة لمجلس الأمن بالتدخل. الخرطوم رفضت الضغوط الأميركية ودعوات واشنطن لتدويل أزمة دارفور وأصرت على أن توكيل «الاتحاد الإفريقي» هو الحل المناسب وإذا فشلت دول القارة في ضبط الأمن فإنها لا تقبل بإرسال قوات دولية للحلول مكانها. إذاً هذه المسألة معلقة وتنتظر التحريك حتى تستقر الأزمة على معادلة جديدة. في فلسطين تضغط واشنطن باتجاه مقاطعة «حماس» وإفشالها في مهماتها من خلال فرض شروط مسبقة وتعجيزية على قيادتها. فالضغوط الأميركية تريد من «حماس» تقديم تنازلات مجانية تبدأ بالاعتراف بـ «إسرائيل» ونبذ العنف وتسليم الأسلحة والقبول بالاتفاقات الموقعة وتنتهي بإسقاط كل الحقوق الفلسطينية المشروعة مقابل لا شيء يذكر. فالإدارة الأميركية كما يبدو ترى أن مشكلة فلسطين مختلقة من طرف واحد وتتحمل «حماس» مسئولية حل الأزمة، بينما الطرف الآخر الذي يخالف «القرارات الدولية» لا شأن له في صناعة المشكلة.
في لبنان تضغط واشنطن على الدولة وتطالب حكومتها بتطبيق القرار الدولي الرقم 1559 الذي تنص فقراته على مجموعة نقاط تتصل بمسألة التمديد للرئيس إميل لحود. فالقرار أو ما تبقى منه يطالب بنشر الجيش في الجنوب وسحب السلاح من الميليشيات «اللبنانية» وغير «اللبنانية». وفي المدة الأخيرة أضافت واشنطن طلباً جديداً تقدمت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس خلال زيارتها بيروت. والطلب يتعلق بفتح ملفات قديمة تعود إلى ثمانينات القرن الماضي ويقتصر على تسليم مطلوبين اتهموا سياسياً بتدبير عمليات ضد قوات تابعة للولايات المتحدة. وهذا الطلب خطير لأنه يربط بنود 1559 بملفات تتصل مباشرة بسياسة الولايات المتحدة ومصالحها ويتعدى قرارات مجلس الأمن. في سورية تضغط واشنطن، وتحديداً منذ احتلال بغداد في العام 2003، على دمشق من خلال الملفات المتعلقة بالشأن العراقي. وبعدها أضافت عليها عقب القرار 1559 مجموعة نقاط تتصل بالتحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري أو ما تسميه بعدم «التعاون مع اللجنة الدولية» ورفض القبول بشروط التفرعات المتصلة بهذا الموضوع التي جاء على ذكرها القرار 1595 ثم قرار «تقرير ميليس» 1636.
في العراق ترفض واشنطن الانسحاب منه، بل إنها تمانع حتى الآن من تقديم خطة زمنية تحدد مواقيت الخروج من بلاد الرافدين. وأحياناً تتصرف وكأنها غير مسئولة عن الكوارث التي استقدمت إليه وارتكبت فيه وأحياناً تعتبره «غنيمة حرب» تتصرف به وفق مصالحها وتلعب بتناقضاته الأهلية مستخدمة سياسات خلط أوراق التحالفات لزعزعة ما تبقى من ثقة بين قواه السياسية. وتستهدف واشنطن من سياسة «فرق تسد» أن تبقى هي الطرف الأقوى في المعادلة تحتاجه كل الأطراف المحلية لضبط التوازن والمحافظة على الأمن العام والسلم الوطني.
في إيران تعتبر واشنطن أن الملف النووي يشكل أساس تحركها في جدول أعمالها الذي يشمل منطقة «الشرق الأوسط». ولهذا تضغط بقوة لنقل الملف إلى مجلس الأمن لتدويله من خلال الدفع باتجاه إفشال الوكالة الدولية في مهماتها وتعطيل المفاوضات الروسية مع إيران. فهذا الملف أصبح على رأس الأولويات ومنه تطمح إدارة بوش أن تضغط أو تضبط مختلف تلك الملفات الساخنة. وظهر هذا الأمر بوضوح في خطاب جورج بوش الأخير حين أكد أنه لن يسمح للدولة الأولى الداعمة للإرهاب في العالم بامتلاك قنبلة نووية. ومعنى الكلام أن واشنطن تعتبر معركتها الأولى في العالم ضد الإرهاب وهي ترى أن الملف النووي يصب في هذا الاتجاه وهو الإطار الوحيد الذي تنظر أميركا من خلاله إلى كل قضايا «الشرق الأوسط». فأزمة دارفور «إرهابية» وقضية فلسطين مسألة «إرهابية» وموضوع لبنان بدأ ينحرف نحو ملفات إرهابية (المطالبة بتسليم أربعة لبنانيين). وبما أن جريمة اغتيال الحريري «إرهابية» فإن عدم تعاون دمشق يقع تحت سقف «الإرهاب». كذلك موضوع احتلال العراق فهو مشكلة تتعلق بالإرهاب لا بأطماع أميركا في ثروات المنطقة من طريق خلخلة استقرارها وتهديد أمنها لضمان أمن «إسرائيل».
المسألة إذاً كلها «إرهاب بإرهاب» وكل الملفات والنقاط تساق أميركياً في هذا النسق من التفكير السخيف ولكنه خطير في استهدافاته.
حلقات «الشرق الأوسط» هي في القياس النسبي الأميركي مجموعة نقاط تتصل بـ «الإرهاب» وتبدأ من إيران وملفها النووي وتنتهي في السودان. وحتى تكتمل عدة النصب لابد أن ينتقل الملف الإيراني إلى مجلس الأمن حتى تستكمل واشنطن نصاب تدويل كل القضايا وربطها في سلسلة واحدة تطلق عليها مفردة: الإرهاب.
على ماذا تدل كل هذه التكتيكات في سياسة «الدومينو» الأميركية؟ إنها فوضى عامة ولكنها في الآن تعكس سلسلة استخدامات لمجموعة ملفات بهدف توظيفها في استراتيجية التقويض من خلال ربط أحجارها تحت سقف مشترك تطلق عليه مكافحة «الإرهاب الدولي». فالتدويل إذاً هو مدخل المكافحة ومنه تستطيع واشنطن تمرير سياسة التدخل والتقويض. وهذا ما نجحت به عموماً باستثناء الملف الإيراني... حتى الآن.
إقرأ أيضا لـ "عقيل ميرزا"العدد 1273 - الأربعاء 01 مارس 2006م الموافق 30 محرم 1427هـ