وصلنا إلى مدينة بوشهر الإيرانية عبر رحلة جوية داخلية قادمة من طهران... وفد الصحافة العربية بدأ يكتمل مع وصول طاقم قناة «العربية» ومندوبين من صحيفتين سعوديتين («الرياض» و«الجزيرة»)... ولا ينقصنا إلا قناة «الجزيرة» الفضائية التي لم تكن من بين المدعوين بعد ان تم إغلاق مكاتبها في طهران (بصورة مؤقتة) قبل تسعة أشهر بسبب تغطيات قامت بها تدخلت من خلالها «في الأمن القومي» لإيران... وعندما كادت ان تفتح مكاتبها في نهاية العام الماضي حدث الشتم الموجه إلى المرجع الديني السيدعلي السيستاني فلم تتشجع على إعادة فتح مكتب طهران، وانفردت قناة «العربية» من حينها بالتغطيات من داخل الساحة الإيرانية.
في المطار تستقبلك لائحة كبيرة كتب عليها «أهلاً وسهلاً» بأربع لغات وهي الفارسية والانجليزية والعربية والروسية وهكذا تشعر أنك اقتربت من المنشآت النووية التي اكتملت بنسبة 90 في المئة بمساعدة الروس...
في قاعة تسلم الحقائب كان الوفد العربي كبيراً، ولكن يفوقه في العدد الروس الذين كانوا معنا على الرحلة أيضاً في طريقهم إلى عملهم في منشآت بوشهر لتوليد الطاقة الكهربائية عبر الاستخدام السلمي للوقود النووي.
اللغتان العربية والروسية تسيطران على القاعة، بينما تحولق ستة من الروس حول اسطوانة مطفأة السجائر يدخنون بكثافة عالية وهم يتبادلون الحديث بالروسية بصوت مرتفع لم أفهم منه كلمة واحدة. وبعد دقائق وإذا بالقاعة الصغيرة تمتلئ بالدخان الكثيف الصادر من السجائر الروسية... إلى جنبي جلس اثنان من الإيرانيين ينتظران حقائبهما، ولكن دخان السجائر الروسية بدأ يخنقهما وهما يتكلمان بالفارسية، ولم أفهم ما قالاه لأنني لا أعرف الفارسية، ومن ثم انتفضا وخرجا من القاعة.
من ناحيتي كنت أيضاً متضايقاً من كثرة السجائر... ولكني فضلت البقاء على الكرسي لأنني مشيت بما فيه الكفاية... وقلت لنفسي «إذا كان هؤلاء الروس قد نجوا من الاشعاع النووي أثناء ممارستهم مهنتهم فإنهم لن ينجوا من دخان السجائر».
ذهبنا إلى الفندق في ثلاث سيارات (ميني - باص) والجميع يعد ويستعد لزيارة المنشآت النووية في اليوم التالي... أهالي بوشهر يشبهون الخليجيين من ناحية الحجم (أقصر بقليل من الطهرانيين) ومن ناحية اللون (لديهم سمرة تشبه سمرتنا).
بوشهر تبدو هادئة وجميلة في الليل، ولكنها سبب لعدم هدوء الدبلوماسية الإيرانية التي تشن حملة إعلامية مضادة للحملات الأميركية والأوروبية فيما يخص سعي إيران لامتلاك القدرة النووية لانتاج الطاقة...
هذه هي بوشهر، وهي المدينة التي اقترحها الأميركان في الستينات والسبعينات من القرن الماضي على الإيرانيين لتشييد منشآت نووية لإنتاج الطاقة... هذه هي المدينة التي احتضنت المهندسين والفنيين الألمان في السنوات الأخيرة من السبعينات من القرن الماضي، وعندما أكمل الألمان إنشاء 90 في المئة من إحدى المحطتين اللتين تحويهما المنشآت النووية في «بوشهر»، فيما الثانية في مراحلها البدائية، وطاقة كل واحدة منهما تقدر بـ «ألف» ميغاوات.
هذه هي بوشهر التي كانت هدفاً على مدى ثماني سنوات من 1980 حتى 1988 للقوات الجوية العراقية التي ضربت محيط المنشآت عدة مرات.
هذه هي المدينة التي استهدفتها الطائرات العراقية وتمكنت من إلحاق الضرر بمحيط المنشآت وأرجعت نسبة إكمالها إلى الوراء... اليوم وبعد 27 عاماً تعود إلى ما كانت عليه، 90 في المئة من اكتمال المنشآت بانتظار الوقود النووي.
وفي حين تسلم الإيرانيون ما يحتاجون من وقود نووي من الروس فإن منشآت «بوشهر» ستشكل هذه السنة أو مطلع السنة المقبلة.
الإيرانيون اتفقوا مع الروس على إنشاء شركة بينهما، وان يقوم الروس بتخصيب اليورانيوم لمدة ثماني سنوات، على ان تبقى إيران على قدرة مختبرية لتخصيب اليورانيوم إلى درجة بسيطة جداً، وذلك بهدف خلق الثقة في نوايا إيران... وهذا الاقتراح سيعرض على مجلس الحكام لوكالة الطاقة الدولية في 6 مارس/ آذار الجاري.
الحصول على الطاقة النووية أصبح الهدف الذي يلتف حوله كل الإيرانيين، وصحفهم لديها موضوع واحد تتحدث عنه، وهو الملف النووي ثم الملف النووي ثم الملف النووي، وبحسب مصادر إيرانية تحدثت إليها «الوسط» قالت «ان هدفنا هو إنشاء عشرين محطة نووية على مدى المستقبل البعيد لان حاجة إيران للطاقة في ازدياد، وأصبحت التكنولوجيا النووية السلمية شريان حياتنا».
أما عن النفط والغاز، فالجواب أيضاً متوافر «النفط والغاز له أجل محدود، وسنستخدمه لدعم الاقتصاد بالعملة الصعبة من خلال تصديره والاحتفاظ بأكبر قدر ممكن لخدمة الأجيال القادمة».
مازال لدينا وقت لزيارة المنشآت النووية، واغتنمت الفرصة لأسأل احد الإيرانيين المرافقين للوفد الصحافي العربي عن أفق العلاقات بين أميركا وإيران...
جوابه بدأ دبلوماسياً، ولكني أصررت على جواب واضح وانني لن اذكر الاسم وبودي ان أصل إلى تفسير أوسع من الذي نسمعه...
فقال «اسأل... فأنت صحافي والصحافيون دائماً يسألون...».
سألته هل ستبقى إيران ترفع شعارات «الموت لاميركا» إلى ما لا نهاية ومن ثم تقول إن الأميركان يستهدفونها في كل شيء؟...
رده كان «إننا في زمن رئاسة السيدمحمد خاتمي خففنا هذا الشعار ولكن الاميركان لم يخففوا من مؤامراتهم ضدنا، ونحن تعاونا معهم في الشأن الافغاني، وابدينا حسن نوايانا عندما احتلت الكويت من قبل العراقيين وكان هناك تفاهم غير رسمي، ومن ثم حالياً في العراق، فهم بحاجة إلى تفاهم مع إيران ونحن أبدينا حسن نيتنا ولكنهم واقعون تحت سيطرة اللوبي الصهيوني ولذلك يكنون العداء لإيران ويحيكون كل شيء ضدنا، وكما سمعت فإنهم خصصوا الأسبوع الماضي 75 مليون دولار لدعم المعارضين ضدنا، وهم مازالوا يحتجزون 11 مليار دولار تابعة لإيران وموجودة في المصارف الأميركية، ولو احتسبنا الفوائد منذ العام 1979 فإن الرقم سيكون كبيراً... فكيف تريد منا أن نرد عليهم؟...».
ولكن (اعترض عليه)... ولكن لقد حول الإيرانيون هتاف الموت لاميركا وكأنه جزء من العبادة والصلاة ولديكم ثلاثة ارباع الشعب ولد ونشأ وهو يسمع الشعار، وهذا له كلفة...
نعم (يجيبني)... ولكن هذا ليس من الضروري ان يبقى فيما لو حسنت أميركا من أسلوب تعاملها معنا.
الحديث تطرق لموضوعات عدة، واسئلة محرجة كثيرة، وكان منفتحاً ويجيب، وربما أكتب بعضها لاحقاً... وواحد من الأسئلة التي عقبت بها على حديثه كان «ترفعون شعار الموت لأميركا لمدة 27 سنة وإلى الآن، ولكن عندما نذهب إلى الفنادق لدفع الفاتورة، فإن الإيرانيين يفضلون الدولار... فكيف تقولون الموت لاميركا بينما يفضل أبناء شعبكم التعامل بالدولار؟
أجابني بابتسامة وكأنها تقول لي كف عن هذه الأسئلة... ومن ثم علق وطرح أفكاره حول الموضوع...
اثناء السؤال والجواب استخدمنا تعبيرات مختلفة، فهو يقول الخليج الفارسي، وانا اقول الخليج العربي، وهو يقول حماس انتصرت، وأنا أقول حماس مازالت لم تمارس عملها كحكومة... ولكن في ختام هذه الأفكار المتبادلة، لا يشك المرء في أن هناك إرادة إيرانية مؤسسة على مبادئ القانون الدولي تسعى لفرض وجودها في المحافل الدولية، على رغم اختلاط الحق القانوني بالشعارات والمشاعر والجمل الاضافية التي تحمل معاني متعاكسة في كثير من الأحيان.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1273 - الأربعاء 01 مارس 2006م الموافق 30 محرم 1427هـ