العدد 1273 - الأربعاء 01 مارس 2006م الموافق 30 محرم 1427هـ

ملا عطية الجمري... بحث حول المنظومة الهجرية (1)

قلة هم الذين يعرفون أنَّ الملا عطية الجمري كان يكتب الشعر العربي الموزون باللغة الفصحى؛ لأنّ غالبية المعجبين به إنّما عرفوه من خلال شعره الشعبي الموزون، ولاسيما ذلك الشعر الولائي في آل البيت، والذي طالما فطّر به القلوب وأقرح العُيون بما أثاره من شجىً ولوعة وأسىً لتصويره بمنتهى الشفافية للمصائب التي حلَّت عليهم، ولا سيما شهيد كربلاء أبو عبدالله الحسين (ع)، ولا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا إنّ هذا الشعر الولائي يعود له الفضل الأكبر في شهرة هذه الشخصية الفذة في منطقة الخليج وبلاد فارس والعراق والشام.

غير أنّ هذا الشاعر الكبير كان له أيضاً شعرٌ عربيٌّ موزون كتبه باللغة الفصحى لا يخلو من ذلك الإبداع والطلاوة، وتلك النكهة الزكية التي اشتهر بها هذا الشاعر المحلق حتى أنه كتب منظومة سماها بالمنظومة الهجرية بلغت قريباً من الـ 500 بيت من الشعر العربي الموزون. هذا بالإضافة إلى بعض القصائد الأخرى التي قالها في مختلف أطوار حياته المليئة بالإبداع والإبهار.

ونظراً إلى أن للحاج ملا عطية الجمري ترجمات عدة تكفينا مؤونة كتابة ترجمة له، وكذلك لأن كثيراً من المحاضرين في هذا المهرجان سيتناولون بالدراسة الوافية جميع الجوانب الفنية والبلاغية في شعر الرجل بشقيه الفصحوي والشعبي، فقد رأيت أن أقصر حديثي هنا على الجانب التاريخي والجغرافي لدى شاعرنا من خلال قصيدته المطولة (المنظومة الهجرية)، ولكن قبل ذلك أود أنْ أتكلم قليلاً عن القرية التي أنجبت هذا الشاعر المطرب المبكي ألا وهي قرية بني جمرة.


بني جمرة (الموقع سبب التسمية)

تقع قرية بني جمرة في جزيرة أوال المعروفة الآن بمملكة البحرين؛ في الركن الشمالي الغربي منها؛ يحدها من الشرق قرية المرخ، ومن الجنوب القُريّة، ومن الغرب البديّع، ومن الشمال والشمال الشرقي قرية الدراز.

وقد اشتهر في الإقليم الذي كان يُطلق عليه في السابق مسمى البحرين، وفي مناطقه الشهيرة القطيف والأحساء وجزيرة أوال. اشتهرت بعض القرى بإضافتها إلى أحد بطون القبائل التي استوطنت هذه المنطقة منذ زمن قديم، فمازال يوجد في الأحساء قرى مثل (بني نحو)، و(بني معن) الواقعتين للشرق من الهفوف، و(بني عواد) الواقعة للشمال من قرية القارة، وفي القطيف ذكر دفتر الطابو العثماني في قانون نامه لواء القطيف في منتصف القرن العاشر الهجري قريتين قطيفيتين مندثرتين الآن سُميتا في الدفتر بـ (بني سنان)، و(بني مُرّ)، وأما في جزيرة أوال أو البحرين الآن، فلم أجد فيها قرية مضافة لأحد البطون سوى بني جمرة.

وأقرب الظن إلى اليقين في سبب تسمية هذه القرية بهذا الاسم هو أنّ بطناً عربياً يعرف ببني جمرة قد سكن موضع هذه القرية، فعرفت بهم تماماً مثلما عُرف في البصرة موضع باسم بني جمرة نسبة لبطنٍ من قبيلة ضبة سكنوا فيه قديماً، ولكن هل ذكر التاريخ بطوناً عربية حملت هذا الاسم (بني جمرة) سكنت إقليم البحرين القديم ومناطقه الثلاث التابعة للأحساء والقطيف وجزيرة أوال؟

في الواقع نعم لقد ذكر النسابون ثلاثة بطون عربية من ثلاث قبائل، سكنت بطونٌ كثيرةٌ منها المنطقة منذ الحقب السابقة لظهور الإسلام وبعده، وهذه القبائل هي الأزد بن الغوث، ضبّة بن أدّ، وتميم بن مرّ بن أدّ.

وفي حين رفع علماء الأنساب نسب بني جمرة الأزديين والتميميين، فإنهم ولأمر لا نعلمه لم يرفعوا نسب بني جمرة الضبيين مكتفين بالقول إنهم من ضبة فقط.

فقد جاء في كتاب لب اللباب في تحرير الأنساب لجلال الدين السيوطي:

«الجمري بالفتح والسكون وبالراء إلى بني جمرة بطن من ضبة ومن تميم ومن الأزد».


وفي كتاب الأنساب للسمعاني:

«الجمري: بفتح الجيم وسكون الميم وفي آخرها راء مهملة، هذه النسبة إلى بني جمرة وهم من بني ضبة نزلت البصرة فصارت المحلة تنسب إليهم، والمشهور بها أبوعبد الرحمن عبدالله بن محمد الجمري الضبي... وعبدالله بن محمد بن العباس الضبي الجمري البصري من بني جمرة».

وبعده:

«وقال الدارقطني قال ابن حبيب: في الازد جمرة بن عبيد بن عبرة بن زهران، وفي تميم جمرة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة... والحسن بن علي بن عمرو الجمري، نسب إلى بني جمرة محلة في البصرة».


وفي كتاب الإيناس بعلم الأنساب للوزير ابن المغربي:

«في تَميم: جَمْرَةُ بن شَدَّاد بن عُبَيْد بن ثَعلبة بن يربوع بن حَنْظَلة».

ومن كل ما تقدم يتضح لنا أنه كان في البصرة موضع يُعرف ببني جمرة نسبة إلى بني جمرة الضبيين، وأنّه بالقياس إلى ذلك فإنّ قرية بني جمرة البحرانية هي الأخرى لابد وأنْ تكون منسوبة إلى واحد من هذه البطون المعروفة ببني جمرة، وهم:

1- بنو جمرة بن عبيد بن عبرة بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبدالله بن مالك بن نصر بن الأزد.

2- بنو جمرة الضبيون من ضبة بن أد.

3- بنو جمرة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.

لأنه كما سبق وقلنا فإنَّ هذه القبائل الثلاث التي تنحدر منها هذه البطون، وأعني بها الأزد وضبة وتميم قد سكنت إقليم البحرين القديم، وجاورت عبدالقيس وقبائل ربيعة فيه، ولا سيما قبيلتا الأزد وتميم اللتان عُرف منهما بطون وأسر وعوائل مازالت تسكن في هذا الإقليم.

وفي زيارة لي إلى هذه القرية التقيت فيها ببعض أعيانها، ومنهم الحاج ملا يوسف بن ملا عطية الجمري الذي أخبرني عندما سألته عن سبب تسمية قريتهم بهذا الاسم بأنها منسوبة لبني تميم من دون أن يفصّل أكثر من ذلك، فإذا صح قوله، فإنّ هذه القرية منسوبة على الغالبية إلى بني جمرة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وهو أمرٌ غير مستبعد لأنّ بطوناً كثيرة من بني تميم سكنت إقليم البحرين القديم منذ زمن قديم يعود إلى بدايات ظهور الإسلام، ولاسيما من بني عبدالله بن دارم وبني سعد وبني يربوع منهم، ولهؤلاء الأخيرين يرجع بنو جمرة كما رأينا.


الملا عطية والمنظومة الهجرية

يعود الفضل في معرفتي بالمنظومة الهجرية إلى الأستاذ الفاضل سالم النويدري، وذلك عندما أخرج إلى عالم البحث كتابه الرائع اعلام الثقافة الإسلامية في البحرين، ولدى تصفحي للترجمة التي كتبها عن الملا عطية فوجئتُ بأنه يذكر له من ضمن مؤلفاته كتاباً بعنوان (المنظومة الهجرية)، وذكر أنها مكتوبة بالشعر العربي العمودي في حدود خمسمئة بيت، ولأنني من المهتمين بتاريخ المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، ولاسيما القطيف والأحساء باعتبارهما الأقدم في هذه المنطقة، فإنني لم أتمالك نفسي من دون أن أقوم بزيارة لمنزل الحاج ملا عطية في بني جمرة، وذلك في عصر يوم الجمعة الموافق للثالث عشر من شوال العام 1414هـ. (25 فبراير/ شباط 1994م) وكان حينها قد مضى على وفاته 13 سنة، فاستقبلني بكل حفاوة وترحيب أبناؤه الحاج ملا يوسف رحمه الله والشيخ محسن والأستاذ عباس، وقد أهدوني المنظومة التي كتبها والدهم بعد أن تكرم الشيخ محسن بكتابتها بالحاسب الآلي، وقدموا لي في الوقت نفسه بعض المعلومات عن حول المنظومة وسبب نظمها وتسمية بعض الأشخاص المنتمين لجزيرة أوال ممن وردت أسماؤهم في المنظومة.

وبعد أن عدت إلى بلدي وقرأت المنظومة وجدت أنّ بها علماً جمّاً ينبغي أن يخرج إلى الناس ليستفيدوا منه، فشرعت في كتابة شرح لها، والتعريف بما ورد فيها من اعلام الناس والمواضع والقرى والعيون والجبال وهو شيء كثير.

وكان من أمتع ما ورد في هذه المنظومة هو وصف الطريق البحري من المنامة إلى ميناء العُقير ثم وصف الطريق البري من ميناء العُقير إلى الهُفوف (عاصمة الأحساء)، وهو وصف لا يوجد له نظير في أي كتاب آخر تعرض لذكر هذين الطريقين سواء كان لدى كتاب المنطقة المحليين أم الكتاب الغربيين من الرحالة والمستكشفين، والأمر الجميل هو أنّ الملا عطية قد دوّن معالم هذين الطريقين في أبيات شعرية تقطر عذوبة ورقة كما هو العهد بهذا الشاعر المبدع.

وتتكون المنظومة في الواقع من 424 بيتاً من الشعر العمودي الموزون على بحر الرّجز ذي القوافي المعتددة بحيث أنّ صدر كل بيت وعجزه لهما القافية نفسها كقوله في مطلعها مثلاً:

الحمد لله الدليل الهادي

لسبل التوفيق والرشاد

أحمده وأستمد النعمة

منه وأرجوه لكشف الغمة

وقد بدأ الملا عطية منظومته هذه بحمد الله والصلاة على النبي وآله في أحد عشر بيتاً، ثم بدأ في سرد وقائع رحلته منذ بدايتها في المنامة وحتى وصوله إلى الأحساء ذاكراً ما مرّ به من مواضع بحرية كجزر سهيلة وجدا والرّقة (أم الصبّان) ومواضع ساحلية مثل مينائي المنامة والعُقير، ومواضع برية، ولا سيما تلك الواقعة في الطريق المؤدي من العُقير إلى واحة الأحساء كأبي زهمول، والسَّواد، وأم الذر، والقُفّ، والمويه، والقهدية، والكثيب، والدُّوار.

ثم بدأ بعد ذلك بذكر أول القُرى الأحسائية التي تستقبل القادمين من العُقير، وهي الجشة، فالجفر، فالطرَف مع وصف دقيق للطريق الموصل بين هذه القرى والهفوف ليصل بعد ذلك شاعرنا إلى الهُفوف التي خصّها وحدها باثني عشر بيتاً وصفها فيها وصفاً شيقاً ذكر فيه حركة الناس فيها وأسوارها وحصونها ليبدأ بعد ذلك بذكر أشهر أعيانها وتجارها وأسرها كآل أبي علي، وآل علي، وآل عامر، وآل أبي حليقة، وآل رمضان، وآل الهاجري، وآل عطية، وآل القصيبي، وآل أبي خمسين، وبعض السادة الأشراف كآل السيد سلمان في المبرز، وآل الحاجي في التويثير، ذاكراً أشهر اعلام هذه الأسر في وقته، ولا سيما آل أبي خمسين الذين ذكر منهم أعلاماً كثيرة كالعلامة الشيخ محمد حسين والعلامة الشيخ موسى وأبنائه، وغيرهم الكثير.

ثم بدأ الشاعر بعد ذلك يذكر أهم المواضع والقرى في الأحساء كجبل القارة الشهير المعروف قديماً باسم جبل الشبعان، فوصفه بأحسن وصف وأجمله، وذكر خواص كهوفه الباردة في الصيف والدافئة في الشتاء، ثم عرّج على ذكر عيون الأحساء الشهيرة مثل الخدود والحقل والجوهرية والحارة وأم سبعة وعين منصور، وعين الصويدرة، وغيرها من العُيون التي اشتهرت بها الأحسا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً