بدأت «الأجندة» الأميركية في «الشرق الأوسط الكبير» تتضح معالمها النهائية بعد سلسلة ارباكات ظهرت على صورتها السياسية في المدة الأخيرة. الارتباك مازال قائماً، ولكن وضوح الرؤية الاستراتيجية بدأ يظهر من خلال تلك النقاط التي تستغلها الإدارة مستخدمة أسلوب التحريك الدبلوماسي تمهيداً لإعادة ربطها في سياق برنامج عمل موحد عنوانه: التدويل.
هناك جردة عامة للحسابات الأميركية. وهذه الجردة بدأت تتبلور في برنامج يشتمل على نقاط محكومة بمنطق واحد وهو تدويل القضايا السياسية حتى تكتسب واشنطن هامشاً يعطيها قدرة على التدخل وفق رؤية تلبي مصالحها.
أهم النقاط المطروحة علناً في «أجندة» البرنامج الأميركي المقبل يمكن حصرها في ست نقاط تتشكل منها محاور الاستراتيجية العامة في الشهور المقبلة وهي: السودان، فلسطين، لبنان، سورية، العراق وإيران.
هذه النقاط مترابطة في الرؤية الأميركية وكلها تصب في إطار مشترك يتألف من حلقات مشدودة إلى سلسلة واحدة. وهذه السلسلة تبدأ من إيران (الأولوية) وتنتهي في السودان. ولكنها في إطار الحسابات العامة تشكل مجموعة محاور أساسية تتحرك واشنطن بين حلقاتها في اعتبار أن الملفات مترابطة وان تباعدت جغرافياً.
الملف السوداني مثلاً أقل أهمية من غيره ويمكن تأجيله. ولكن الولايات المتحدة تعمد دائماً إلى تحريكه لأنه يؤثر سلباً على مصر ويعطل عليها إمكانات التحرك باتجاه معالجة تلك النقاط الحساسة التي تطرأ في العراق والخليج وسورية ولبنان وطبعاً فلسطين.
الملف اللبناني ليس مهماً الآن، ولكن واشنطن تحركه بين الفينة والأخرى لتضغط من خلاله على سورية بغية الهاء قيادتها السياسية ومنعها من التفرغ لمعالجة ملفات تؤثر سلباً على استقرار البلاد وتحديداً تلك التشنجات التي يثيرها الملف العراقي على الصعيدين الأمني والاستراتيجي.
الملف الفلسطيني مهم ولكن واشنطن أخذت تتعامل معه بعد احتلال العراق بوصفه مسألة ثانوية مرتبطة بقضية أهم وهي «مكافحة الإرهاب الدولي». أي أن الموضوع الفلسطيني تحول في عهد إدارة بوش إلى ورقة في ملف كبير واختزل إلى مجرد مسألة «إرهابية» تتصل مباشرة بملاحقة تنظيم «القاعدة» وتفرعاته.
الملف السوري أيضاً بدأ يخضع في المدة الأخيرة إلى دفتر شروط لا تعرف صفحته الأولى من الأخيرة. فالأوراق في هذا الملف مختلطة ومبعثرة في القراءة العامة للسياسة الأميركية. فمرة تعطي واشنطن أولوية للورقة اللبنانية في تعاملها مع دمشق، ومرة تعطي أولوية للورقة العراقية، وأحياناً تضع العلاقة مع طهران على رأس جدول أعمالها. وفي أحيان أخرى تضع الأوراق كلها في رزمة واحدة تنتهي كلها في قضية الأمن «ومكافحة الإرهاب الدولي».
عدم الوضوح في القراءة الأميركية لا يقتصر على الملف السوري وانما يمكن ملاحظته في الملف العراقي. ففي سورية مثلاً تتحدث واشنطن أحياناً عن سياسة تغيير النظام ثم تعود في أحيان أخرى إلى التحدث عن تغيير في سياسة النظام (السلوك). وبين هذه وتلك تسكت الإدارة الأميركية لمدة زمنية ثم تبدأ مجدداً بتكرار كلام قالته في فترة معينة. هذا الأمر نقرأ بعض ملامحه في التعامل مع الملف العراقي. فأحياناً تتحرك واشنطن بصفتها الطرف الوحيد المسئول عن رعاية شئون العراق ثم تعود في أحيان أخرى تطالب دول العالم ودول الجوار وجامعة الدول العربية بالمشاركة في وضع حلول لكارثة أسهمت هي في صناعتها. ويفسر هذا الاختلاط في قراءة الملف العراقي تلك الارباكات التي تظهر في سياستها العامة وهي تتكشف في تصريحات متضاربة تتحدث تارة عن نجاح محدود (انتخابات ديمقراطية) وتتكلم طوراً عن فشل محدود (فوضى أمنية) وهذا ما تسميه في المجموع العام: فوضى بناءة.
وفي حال الانتقال إلى الملف الإيراني يمكن ملاحظة التوجهات المختلفة في سياسة واشنطن. فالإدارة الأميركية تعتبر أن الموضوع النووي مسألة غير قابلة للنقاش ولكنها لا تتردد في ترك أوراق الملف للبحث والتداول لكسب الوقت وحرق المراحل باتجاه دفعه إلى مجلس الأمن حتى تأخذ دوله قراراً يعطيها فرصة للتدخل فيه مباشرة.
الولايات المتحدة تراقب مجرى النقاش الدائر حالياً بشأن الملف، وتراهن الآن على احتمال فشل تلك المفاوضات القائمة بين طهران وموسكو للاتفاق على مكان «التخصيب». كذلك تضغط من خلال حليفها الأوروبي للتأثير سياسياً على قرارات الوكالة الدولية للطاقة الذرية باتجاه الدفع لنقل الملف إلى مجلس الأمن.
تدويل الملف الإيراني هو هدف رئيسي للسياسة الأميركية في الأسابيع المقبلة. وفي حال نجحت واشنطن في هذه الخطوة تكون أنجزت مهمة تعتبرها ضرورية لتبرير تدخلاتها الأخرى في مختلف ملفات «الشرق الأوسط الكبير». فمن دون وضوح السياق الذي ستذهب إليه أوراق الملف النووي الإيراني ستبقى الرؤية الأميركية في دائرة «الشرق الأوسط» عرضة للتشويش وعدم الوضوح. وحين تنجلي هذه المسألة ستكون واشنطن في وضع أفضل من ناحية التعامل مع مختلف الملفات التي تبدأ بإيران وتنتهي في السودان.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1272 - الثلثاء 28 فبراير 2006م الموافق 29 محرم 1427هـ