موجة الجماهير اليوم يُسيُّرها بعضٌ من علماء دين مُتحزبون وسياسيون متحالفون معهم. من جاكرتا في إندونيسيا وحتى طنجا في المغرب يعيش الناس في هذا الجو بطريقة شبه استلابية. بالتأكيد، فإن المشكلة هي ليست في مسألة التديّن والقناعات والممارسات الروحية الشخصية، وإنما في احتكار الفضاء العام للمجتمعات وكذلك حركة الأفراد إلى درجة التوجيه السلوكي والتفكيري وفق طريقة الحصار المُحكَم من قِبَل هؤلاء حتى غدا الأمر وكأنه مطبخ لإنتاج العقول المعلَّبة والجاهزة التي تنتظر دورها في الصراع وقنص الثارات.
ما يزيد المشكلة سوءاً هو مطابقة الانقسام الحزبي والجهوي لعلماء الدين والسياسيين على الجماهير ذاتها، فتراها تحمل رايات حرب لا ناقة لها فيها ولا جَمَل سوى أنها تنتصر لهذا الزعيم الديني أو ذاك. ثم تزداد المأساة ويزداد المجتمع انقساماً عندما تنتقل الصراعات من الزعامات الدينية والسياسية إلى المجتمع بتغذية مباشرة من خلافات طائفية قديمة يتم توظيفها بشكل تافه ورخيص في ذلك الصراع المفتوح والمشحون بإغراءات التمدد البشري.
ما نراه حقاً هو أن البعض في عالمنا العربي والإسلامي أصبح مشروعهم أشبه بمشروع البابا بيوس الخامس قبل 439 عاماً عندما كان مهووساً بالقتال الكاثوليكي البروتستانتي في أوروبا والقضاء على تحركات المبشِّرين اللوثريين. اليوم تتذابح المجتمعات العربية والإسلامية طائفياً وإثنياً تحت ناظر البعض وبتحريض منهم وينهار أهم مِدماك في المجتمع وهو السِّلم الأهلي دون أن يُفكروا في خطورة ذلك ولو للحظة واحدة أو أن يبتكروا خطاباً متسامحاً وواضحاً لإيقاف نزيف الدَّم الجاري وإفهام الناس بأنهم إخوة في الدين أو نظراء في الخلق ولا شيء غير ذلك.
كثيرون هُم ممن تَمَشْيَخوا واعتلوا قامَة العِمَّة والإفتاء بغير ذي حق. وكثيرون ممن تسيّسوا ظناً منهم أن السياسة ما هي إلاّ صراع من أجل الصراع والإبقاء على الإشكال. فالمقدار الذي يُبهِرُك به نفرٌ من الناس بما وصلوا إليه من العِلم والفِكر والتقدم، يُبهِرُك كذلك آخرون (وبذات المقدار إن لم يكن أكثر) بما وصلوا إليه من أفعال عدم تقدير الأمور والصَّلافة وبلا انقطاع لمثل هذه النعوت. هذه مصيبة باتت تجتاح مجتمعاتنا العربية والإسلامية حقاً.
في السابق وإبَّان الحروب الدينية في أوروبا كانت المصلحة قد اقتضت أن تمارس بعض القوى السياسية العظمى والدينية في الكنائس والأديِرَة تحريضاً طائفياً لإشغال المجتمعات الأوروبية عن طرح الأسئلة الحادة والمتعلقة بنظام المصالح القائم. وقد نجَحَ ذلك الأمر في البداية إلا أنه عاد وانكشف بعد أن آذت الشعوب الأوروبية نفسها في ألمانيا وسويسرا وفرنسا وبريطانيا وفي الوسط والشمال بشكل يستحي الإنسان الأوروبي استذكاره اليوم وهو في أوج حضارته.
في هذا الزمان ليس الأمر مختلفاً كما يتصوّر البعض. وهو يُقال ليس هَوَساً بمنطق التآمر علينا من الغَيْر؛ بل هي دروس تعلّمناها من التاريخ. فالشعور الإمبريالي لا يزال موجوداً، وهو مدفوع بحسّ التوسع على حساب الآخرين، وأيّ شيء يُمكن يخدم ذلك الشعور والتوسّع هو جائز في منطقهم دون أدنى تحرّج أو خوف على مصير مجتمع ما. فالأصل في الأمور لديهم هي المصالح فقط لا غير. وبالتالي فإن تغذية تلك الصراعات لدينا ليس غريباً ولا جديداً أبداً.
في كلّ الأحوال فنحن اليوم أمام مسئولية تاريخية ومصيرية نرجو من الجميع تحمّلها بلا تسويف أو قصر نظر. وعلى القيادات الروحية والسياسية التي انغمست وأغمست معها الجماهير أن تدرك أن هذه الشعوب والمجتمعات في العالم العربي والإسلامي لا تحتاج إلى دفع نحو الصراعات الداخلية والبينية. إنها طاقة بشرية نابِهة تحتاج إلى توجيه وخطاب أفضل. فآحاد هذه المجتمعات برزت كقيادات علميّة رائدة وأظهرت مقدرة فكرية نوعية عندما احتضنتها مؤسسات خارج بلدانها، فمن الخطأ والمعيب توظيفها في غير ذلك المسعى
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3150 - الجمعة 22 أبريل 2011م الموافق 19 جمادى الأولى 1432هـ