الخروج المتدفق للآلاف من الشباب في زمن قصير يعكس هذه الصعوبة النفسية. فأمام سجن الوعي في صورة المجتمع الآمن، منع الخوف الموضوعي عند فئات مجتمعية عديدة من أن يجد تصريفه الطبيعي.
لقد لاحظنا خلال هذه الثورات المتتالية نسق تصاعد المطالب الاجتماعية الى سياسية والاصلاحية الى ثورية والمرحلية الى فورية. هل كان ذلك تكتيكا سياسيا؟ اذن من المفترض وجود عقل سياسي موجه للثورة. لكن لم تستطع آلة الانظمة المستبدة البرهنة على ذلك برغم ما تملكه من امكانات الرقابة والقمع. التفسير هنا نجده في عامل الخوف. الخوف الذي تحول من معيق الى مفجّر ثم الى قلق وحيرة.
ربما يعتقد المستبدون الذين يشتغلون على زراعة الخوف في مجتمعاتهم انهم بذلك يؤمنون سلطانهم. ربما يكون ذلك صحيحا اذا ما اكتفت هذه الانظمة بالمقدار المناسب من الخوف وصرفته داخل المجتمع بالآليات الذكية والمرنة التي تتوخاها بعض الانظمة حتى تلك التي تنعت على انها ديمقراطية. فالانغلاق التام وسد كل المنافذ على تصريف الشعور بالخوف بما في ذلك محاصرة العنف الاجتماعي والتغاضي على الأحداث المعزولة واستعمال الرموز بشكل ساذج، كل ذلك يدفع لحالة من الاحتقان الذي يعبر عن بنية عميقة من الخوف لكنه خوف متدفق لا خوف كامن.
الآن وقد ملأ الخوف شوارع المدن لم لا يعود إلى مكامنه المعزولة؟
هو السبب نفسه الذي أشعل نار هذه الثورات أي الخوف ذاته. نلاحظ هنا كيف يتحول الشعور بالخوف شيئا فشيئا إلى شعور ايجابي أي محفز على الفعل والمبادرة بدل أن يكون عائقا كما أراده الطغيان. الخائف هو الذي لا يتردّد ولا يتراجع عندما يصبح الخوف دافعه للفعل. لذلك كنا نرى هذا النسق المتصاعد من الزخم في المطالب وفي التحشيد الجماهيري للتعبير عن الخوف العمومي في مجتمع الاستبداد. فالوعي كبنية ذهنية حاصل، لكنه لم يكن كافياً لإحداث مثل هذه التغييرات لأسباب متعددة. أولا لأن الوعي المتراكم وفق التسلسل المنطقي كان يجب أن يعبر عن نفسه هيكليا ضمن النسيج المجتمعي المنظم قبل أن يتحول إلى قوى صانعة للثورة وهذا لم يحصل في كل الثورات العربية التي حصلت حد الساعة. ثانيا لأن تلبس هذه الثورات في مسارات تحققها بهذا الحجم من الوعي المفترض لانجاز ثورة كان غائبا بإجماع الملاحظين.
فما الذي كان يحصل بالتدقيق إذن؟
بالنظر إلى علم النفس الاجتماعي فان هذه الثورات تضمنت وعيا خائفا تفجر بدافع تلقائيّة انسيابه في حراك عفوي يخشى من أن تراجعه في لحظة ما يمكن أن يجعله فريسة الاستبداد. لذلك كانت مطالب الجمهور الثائر قصوى في تعبيراتها الكاملة وقاطعة في مبدئيتها. ولأنّ هذا الخوف لايزال يتملك مشاعر الناس نرى شباب الثورة يدفع بأنفاس جديدة في الشارع تحت مسميات حماية الثورة أو أمناء الثورة أو غيرها من التعبيرات السياسية الثورية ذات الطابع العفوي ولكن غير الحزبية أو المهيكلة إلا في حدها الأدنى.
3 - منطق الثورة وحيرة السياسة: الثورة حادثة خارقة، كما الكسوف وربما أكثر لأن قوانين الطبيعة أضحت اليوم ذات صرامة أحالت الكثير مما كان يبدو معجزا إلى واقع موضوعي. لكن الثورة مازالت إلى الآن لم تنشئ منطقا خاصا بها ولا هي سكنت لما هو متوافر من أدوات التحليل المنطقي العقلاني. وربما لا يتحقق من أي محاولة لأفهمة حادثة ثورية ما سوى السيطرة والتوجيه أي ممارسة السلطة باعتبار أن الوعي بالشيء يفضي حتما إلى الهيمنة عليه في هذه الابستيمية المعاصرة.
ولان الثورة استهدفت السلطة فلا غرو أن نجدها تفلت من كل سلطة سياسية كانت أو معرفية. لذلك لا نطمح حقيقة تأسيسا معرفيا لمنطق الثورة، إنما من المفترض أن تتعلم الإنسانية من ظاهرة تعميم الغضب وإغراق الواقع ثورة على نواميسه التقليدية. ومثلما تتكشف لنا أحيانا ظواهر كونية على أنّها خوارق لا تتكرر إلاّ مرة أخرى فنستغل ظهورها لنتعلم منها، كذا أمر الثورة. يجب أن تجلس نخبنا وتمرغ انفها في التراب أمام هذه الثورات المتفجرة في أنحاء المنطقة العربية وتصبر على التعلم منها صبرها على بلوغ الحكمة. وانه لباعث على العجب حقا أن نقرأ كتابات غير ثورية في مثل هذه الثورات المعاصرة، نصوص تسحب الماضي على الحاضر في تغاض بغيض عن حدة الانكسار المفترض في واقع التحولات الثوريّة. نشهد ذلك في استمراء الحديث عن الحرّيات والدّيمقراطية في سياقاتها المشهديّة الليبرالية مثلا، ألم يستحضر هؤلاء ما يفترضه السياق الليبرالي من نهاية لتاريخ الثورات؟ إنّني حقا لأعجب كيف يمكن لثورة تستبطن ضرورة معاني التغيير الجذري العنيف والفجائي وبالطفرة أن تتماهى مع مطالب النظرية الليبرالية القائمة على مفهوم الاتجاه الأفقي للتاريخ، اللهم إلا إذا كانت من قبيل العقاقير الصيدلية المحافظة على الوزن، ثورة لايت.
لذلك أعتقد أن مسئولية الوفاء لهذه الثورات تفترض الاشتغال على ثلاثة مستويات من المراجعات: أوّلا: مراجعات ابستمولوجية للبناء المعرفي الإنشائي الوضعي الذي هيمن على العلوم الإنسانية وقطعها عن مواردها المجتمعية والقيمية والتاريخية بما أدى إلى حالة الإبهام التي تخترق الوعي العربي في مواجهة هذه الثورات.
ثانيا: مراجعات في الفكر السياسي حول الحكم الرشيد، والوحدة الثقافيّة والتنوّع السياسي، والعمق المجتمعي للدولة، والحاجة للمجتمع الأهلي في سياق نمط حياتي متحرّر من شكلانيّة التنظيمات القانونية العصريّة، والتعاطي مع روح القوانين وأهمية مراعاة ذلك في التشريع والتنزيل وغيرها من قضايا الفكر السياسي.
ثالثا: مراجعات تأسيسية وواقعيّة تخص نسق الفعل المجتمعي وقدرة الحياة الحزبية على التعبير عن الحالة العربية الراهنة، والنخب التقليدية في علاقتها بمجتمعاتها، وبروز نخب جديدة وتموقعها ودورها، والتعبير العفوي داخل المجتمع وارتباطه بالمشروعية الواقعيّة.
في ما يبدو لي أن هذه المراجعات ضرورية إما لمحاولة فهم هذه الثورات التي تجتاح الواقع العربي الجامد منذ نصف قرن، واما تعبيرا عن ايجابية العقل العربي واستعداده للوقوف والتتلمذ عليها عله يستطيع أن يشق طريقه من جديد في دورة الإنتاج الحضاري الإنساني. أذكر أنّ فيلسوفا عظيما قال ذات يوم إنّ الفكر كبومة مينيرفا لا يطلع إلا آخر النهار عندما يكون الواقع قد شارف على إتمام دورته.
في النهاية ما يبعث على القلق أن ثورة الخائفين قد أنجزت بين حالتين متقاربتين لا يوحي التنقل بينهما بالطفرة التي من المفترض أنها خاصية الثورة، هما الخوف الذي تفجر في وجه الاستبداد والحيرة التي خلفها هذا الخوف
إقرأ أيضا لـ "رياض الشعيبي "العدد 3149 - الخميس 21 أبريل 2011م الموافق 18 جمادى الأولى 1432هـ