لم تحضر الأفلام المصرية هذا العام من جديد في «كان»؟ ما الذي يهم طالما أن مصر حضرت وبقوة وبشكل غير رسمي لدورة العام 1997؟ لقد حضرت مصر التاريخية الواقعة بين انتهاء زمن الفراعنة والزمن الذي سبق الفتح العربي لأرض النيل ولكن ليس في فيلم مصري بل في فيلم اسباني. وكأن المخرج الاسباني اليخاندرو امينابار أراد هنا ان يرد ولو متأخرا تحية زميله المصري الراحل للأندلس الاسبانية في «المصير». فيلم أمينابار بعنوان «آغورا» وتدور أحداثه في القرن الرابع الميلادي في مدينة الاسكندرية يوم كانت هذه المدينة مركز اشعاع عالمي موروث من أوروبا والزمن الاغريقي. سرعان ما قضى عليه التعصب والتطرف باسم الدين وأدى الى إحراق وتدمير مكتبة الاسكندرية (وهو تدمير نسبه عدد من المؤرخين الغربيين الى العرب مع انه حدثَ تاريخيا قبل وصول هؤلاء الى الاسكندرية بما لا يقل عن خمسمئة عام. وهذا الشيء يقوله فيلم «آغورا» لكنه ليس موضوعه الأساس بالأكيد).
لقد ذكرنا هنا فيلم «المصير» وليس الأمر صدفة. فالفيلمان بعد كل شيء وعلى تفاوت قيمتهما الفنية يقولان الأشياء نفسها. يحكيان عن التعصب, عن جنون الجماهير حين يتلاعب بها الايديولوجيون إذ يسخّرون الدين لخدمة تطلعاتهم. وكذلك غربة المثقف والعالم التنويري حين تسود الديماغوجية وتحدث صراعات دموية بفضل تهييج الشارع ورعاعه والتلاعب بهم. وأمينابار يقدم موضوعه هذا من خلال قصة حقيقية حفظتها ملفات تاريخ مكتبة الاسكندرية ولكن جرت مؤامرة صمت تاريخية من حولها، ربما لأن الضحية الأولى كانت امرأة. وربما لأن الفئات التي حكمت مصر وغيرها تباعا منذ ذلك الحين وجدت السكوت في مصلحتها.
المهم ان التاريخ حفظ الحكاية وها هو المخرج الاسباني الشاب يلتقطها ليحولها فيلما ضخما عرض في «كان» خارج المسابقة الرسمية ليكون واحدة من أولى المفاجآت الطيبة. وأولا لأن الفيلم على طوله لم يأتِ مملا بل أتى ديناميكيا بني على سيناريو متين استفاد بشكل رائع من ديكورات مثلت الاسكندرية القديمة وصورت بشكل أخّاذ عيّش المتفرجين حقا داخل المكان التاريخي ولا سيما في اللقطات العامة للمدينة وأسواقها وساحته العامة وناسها وصراعاتها والتنافس الفكري والديني الذي بدأ سلميا سجاليا قبل أن يتحول الى صراع ديني ومذهبي دموي يسعى كل فريق فيه الى السيطرة على الفريق الآخر إن لم يُلغه تماما. وهذا قدمه أمينابار من خلال حكاية تلك المرأة: العالمة والفيلسوفة هيباتيا التي كانت من أبرز المدرسين والمخترعين المستكشفين في مدرسة الاسكندرية سائرة على خطى والدها الفيلسوف ثيون. لقد كانت هيباتيا سباقة على كيبلر بأكثر من 12 قرنا بالنسبة الى الاكتشافات الفلكية التي حققتها. لكنها كانت في الوقت نفسه سباقة على مثقفي أزماننا الحاضرة من ناحية إيمانها بالتحرر والتسامح والحرية الفكرية وأسبقية العلم. ولسوف يكلفها هذا غاليا إذ حين تصبح الغلبة للانتشار المسيحي بعدما كان مسيحيو الاسكندرية ضعفاء مضطهدين، وإذ رفضت هيباتيا الرضوخ للسلطات التي بات يتصارع فيها الآن ثلاثة من الذين كانوا طلابا عندها. وبعد أن طُردت تلك المرأة العالمة المتحررة من المكتبة التي استولى عليها الرعاع باسم الدين وألغوها من الوجود أتى الدور على هيباتيا ليهاجمها الرعاع ويحكموا عليها بالإعدام رجما وسحلا وجرّا في الشوارع لتكون عبرة لمن سيجرؤ بعد ذلك على إعطاء العقل مكانة أولى في الوجود.
تُرى هل يذكرنا هذا بشيء نحن أبناء بدايات القرن العشرين؟
أوَلسنا هنا أمام تاريخ يبدو وكأنه هو هو الذي نعيشه اليوم؟
هل ان هذا الفيلم الذي حققه مخرج اسباني شاب في زمننا الراهن فيلم يريد أن يرفّه عنا بحكاية صارت بعيدة في الزمن؟
الحقيقة ان «آغورا» هو واحد من نصف دزينة من أفلام أساسية في هذه الدورة اللافتة من «كان» تستخدم التاريخ لتقول الحاضر وهمومه.
صحيح اننا إذا استثنينا «آغورا» الذي يدنو سينمائيا من مدرسة الاسكندرية ومأساتها للمرة الأولى بمثل هذا السيناريو القوي والمعبأ بالدلالات والإسقاطات، سنجدنا أمام أفلام تعيد وإنْ بلغات ودلالات جديدة تواريخ سبق للسينما أن قدمتها، لكن هذا لن يكون مأخذا بالتأكيد طالما أن كل فيلم جديد هو محاولة معاصرة لقول ما هو أساسي ومشترك وفي إمكانه أن يقول الحاضر. وهذا أمر سوف نفصله في رسائل مقبلة أما هنا فإننا نكتفي ببعض الإشارة الى هذه الأفلام.
فهناك مثلا فيلم «قيصر» للروسي بافيل لونجين. وهذا الفيلم يتحدث عن القيصر ايفان الملقب بالرهيب والذي كان ايزنشتاين حقق عنه أيام ستالين فيلما رائعا في جزأين. هذه المرة لا يعود لونجين الى حياة ايفان وانتصاراته كما فعل رائد السينما السوفياتية الكبير في لعبة إسقاط بين ستالين وإيفان ، بل يكتفي بتصوير سيناريو استثنائي عن صراع السلطة الذي احتدم بين القيصر ورئيس الكنيسة الأورثوذكسية الذي كان إيفان عيّنه بنفسه كي يتلاعب به لكن رجل الدين راح يسعى للإفلات من قبضة قيصره وولي نعمته. هل نحن بعيدون هنا كثيرا عن «آغورا»؟
في مجال آخر ومقابل موضوع التعصب والسلطة والتلاعب بالدين يأتي المخرج الفرنسي من أصل أرمني روبير غيديغيان ليعود الى موضوع سبق للسينما الفرنسية أن تطرقت إليه كثيرا ودائما في أفلام مميزة: موضوع المقاومين الأجانب من أصول أرمنية ورومانية وبولندية وغيرها من الذين ساعدوا الشيوعيين الفرنسيين على مقاومة الاحتلال النازي فكان جزاؤهم أن سلمهم الفرنسيون الى النازيين الذين أعدموهم. لقد عرف هؤلاء المقاومين الأجانب من خلال ملصق أحمر اللون ندد بهم وبرر إعدامهم، من هنا كان اسم القصيدة التي كتبها اراغون عنهم» الملصق الأحمر».
اليوم إذ يعود غيديغيان الى هذا الموضوع هل تراه يتسلى في استلهام التاريخ أم انه يقول كلاما عن العنصرية المستشرية اليوم في أوروبا وغيرها؟
كل هذا يجعل من بعض أفلام هذه الدورة الكانية درسا في التاريخ ولكن أيضا سلاحا للتصدي لجرائم أزماننا الحديثة. ومن هنا كان واضحا غيديغيان حين عنون فيلمه «سلاح الجريمة».
العدد 2456 - الأربعاء 27 مايو 2009م الموافق 02 جمادى الآخرة 1430هـ