العدد 3148 - الأربعاء 20 أبريل 2011م الموافق 17 جمادى الأولى 1432هـ

آليات الكتابة لـ «أمبرتو إيكو» (6)

حاشية على «اسم الوردة»

ترجمة وتقديم - سعيد بنكراد 

20 أبريل 2011

وهناك مشكلة أخرى: يتعلق الأمر بالتداخل بين المحافل السردية. لقد كنت أعرف أنني منهمك (أنا) في سرد قصة بكلمات شخص آخر، بعد أن أشرت في المقدمة إلى أن كلمات هذا الشخص قد تسربت عبر محفلين آخرين على الأقل: محفل مابْيُون ومحفل الأب فالي. ويمكن أن نفترض، بالتأكيد، أن هذين المحفلين قد تصرفا، كما يفعل ذلك الفيلولوجيون، في النص الأصلي (من سيصدق ذلك)؟

ومع ذلك، فإننا سنصادف هذا المشكل من جديد في سرد أدزو نفسه، وهو سرد بضمير المتكلم. فأدزو يحكي وعمره ثمانون سنة عما عاشه عندما كان في الثامنة عشرة من عمره. من يتكلم إذن، أدزو ابن الثامنة عشرة سنة أم أدزو ابن الثمانين؟ هما معاً بطبيعة الحال، والأمر كان مقصوداً من جانبي. فاللعبة كانت تقتضي أن نصور باستمرار أدزو الشيخ وهو يحكي عما يتذكر أنه شاهده أو سمعه وهو شاب.

إن نموذجي كان هو Le Serenus Zeitblom للدكتور فاوستيس (ولكن لم أعد قراءته واكتفيت بذكريات بعيدة). إن هذه اللعبة التلفظية المزدوجة قد استولت عليَّ وملكت عليَّ نفسي، ذلك أنني، وأنا أضاعف شخصية أدزو، كنت أضاعف من الحجب والشاشات الموضوعة بيني، أنا باعتباري شخصاً له سيرة محددة، وبيني باعتباري مؤلفاً يروي أحداثاً، أي سارداً وبين الشخصيات التي تتم روايتها بما في ذلك الصوت السردي، وهذا يذكرنا بمسألة القناع التي أشرت إليها سابقاً.

لقد كنت أشعر أنني محمي، وقد ذكرتني هذه التجربة (لديّ رغبة في أن أقول محمياً جسدياً ببداهة تشبه وضع قطعة اطو في الزيزفون) ببعض الألعاب الطفولية حيث كنت أتسلل تحت الغطاء لأشعر وكأني في غواصة ومن هناك كنت أبعث برسائل إلى أختي التي كانت من جهتها مختبئة أيضاً تحت غطاء في سرير آخر. لقد كنا منعزلين عن العالم نتمتع بحرية لا حد لها في ابتداع سباقات طويلة داخل مياه صامتة.

لقد كان أدزو مهمّاً بالنسبة إليَّ. فمنذ البداية كنت أرغب في رواية القصة كاملة (بأسرارها وحوادثها السياسية والتيولوجية وبغموضها أيضاً)، من خلال صوت شخص يعيش داخل الأحداث بإخلاص آلة فوتوغرافية في يد مراهق لا يعرف عن هذه الأحداث أي شيء (ولن يفهمها جيداً حتى وهو شيخ، لذلك فإنه سيختار الهروب إلى العدم الإلهي، وهذا الهروب لا يشبه ذلك الذي علمه إياه أستاذه).

ولقد كانت الغاية هي أن نجعل من كل شيء يُفهم من خلال كلمات شخص لا يفهم شيئاً. وعندما أقرأ النقود، أدرك أن الأمر يتعلق هنا بمظهر من الرواية نادراً ما أثار اهتمام أي قارئ مثقف (لا أحد تقريباً أشار إلى هذا المظهر). وأتساءل الآن: ألا يكون هذا المظهر هو الذي ساهم في تحديد مقروئية الرواية عند القراء العاديين. لقد اندمجوا في براءة السارد وكانوا يشعرون بأنهم قد تخلصوا من كل إثم عندما لم يفهموا كل شيء. لقد واجهتهم بقلقهم تجاه الجنس واللغات غير المعروفة، وصعوبة الفكر، وخبايا الحياة السياسية. إنها أشياء أعيها الآن، بعد فوات الأوان. ولكن ألا أكون هنا أسقط على أدزو مجموعة من انفعالاتي وأنا مراهق، خاصة ما يتعلق منها بارتعاشة الحب (ولقد كنت دائماً أتمتع بحماية شخص آخر غيري يقول ذلك. وبالفعل فإن أدزو لا يعيش آلام الحب إلا من خلال كلمات لا يستعملها كهنة الكنيسة للحديث عن الحب). إن الفن هو تخلص من الانفعالات الشخصية، لقد علمني ذلك جويس وإليوت.

لقد كان الصراع ضد الانفعال عنيفاً. لقد كتبت صلاة رائعة نسجتها على منوال «مديح الطبيعة» لألان دو ليل، ووضعتها على لسان غيوم في لحظة من لحظات الانفعال. وأدركت بعد ذلك أننا، أنا وهو، سنثير شفقة الناس. أنا باعتباري مؤلفاً وهو باعتباره شخصية. فأنا باعتباري مؤلفاً، لم يكن من حقي فعل ذلك، وهو باعتباره شخصية لم يكن في مقدوره فعل ذلك، لأنه صنع من طينة مغايرة. فانفعالاته كانت من طبيعة ذهنية أو متحفظة. لذلك حذفت هذه الصفحة. ولقد قالت إحدى الصديقات بعد أن قرأت الكتاب: إن اعتراضي الوحيد هو أن غيوم لم يكن يعرف الرحمة»، (ولقد نقلت هذا الكلام إلى صديق آخر فأجابني: طيب، هذا أسلوبه في نحت منتحبته (17) piéta قد يكون الأمر كذلك، آمين.


7 - التعريض

لقد ساعدني أدزو على حل مشكلة أخرى. لقد كان بإمكاني أن أجعل أحداث قصتي تجري في زمن قروسطي يعرف عنه الناس كل شيء. فإذا قال شخص ما في قصة معاصرة بأن الفاتيكان لا يوافق على طلاقه، فلن يكون من الضروري أن نشرح ماذا يعني الفاتيكان ولماذا لا يوافق على الطلاق. إلا أن الأمر ليس كذلك في رواية تاريخية. إننا نحكي أيضاً من أجل تنوير الناس وإخبارهم بما حدث، ومن أجل الإشارة إلى أن هذه الأحداث البعيدة لها أهميتها راهناً.

إلا أننا قد نقع في مخاطر «الصلغارية». إن شخصيات صلغاري تفر إلى الغابة هرباً من الأعداء، فتقع على جذر شجرة باأوباب (18): لحظتها يتوقف السارد عن الحكي لكي يقدم لنا درساً في علم النبات والباأوباب. إنها فكرة كثيرة التداول. إن الأمر طريف، فهو شبيه بعيوب شخص نحبه، ولكننا نعمل جاهدين على تجنب عيوبه.

لقد أعدت كتابة مئات الصفحات لكي أتجنب هذه العقبة، ولكنني لا أتذكر ماذا فعلت من أجل حل هذا المشكل. لقد أدركت هذا الأمر سنتين بعد ذلك فقط، عندما كنت أحاول أن أشرح لماذا لقي هذا الكتاب تعاطفاً من أناس لا يحبون قراءة الكتب «العالمة». إن الأسلوب السردي لأدزو يستند إلى ذلك المحسن البلاغي الذي نطلق عليه القول المراوغ (prétérition). إنه المثال الشهير: (بإمكاني القول إنها تعرف جيداً جمال الكتب الخاصة بالفكر... ولكن لماذا أسهب في القول) (بوسيي).

إننا لا نريد أن نتحدث عن شيء يعرفه الناس جيداً، إلا أننا، ونحن نقول ذلك، نتحدث عن هذا الشيء. إن هذا يشبه الطريقة التي يستعملها أدزو للإشارة إلى بعض الشخصيات وبعض الأحداث المعروفة جداً. فهذه الشخصيات وهذه الأحداث، لا يعرفها قارئ أدزو، وهو ألماني من نهاية القرن، لأنها شخصيات وجدت وأحداث وقعت في إيطاليا في بداية القرن، ولم يكن لأدزو أي تحفظ للحديث عنها. بل سيفعل ذلك بأسلوب تعليمي، لأن ذلك كان هو أسلوب الإخباري القروسطي. فلقد كان يرغب كثيراً في إدخال مقولات موسوعية كلما أشار إلى شيء ما. ولقد قالت لي صديقة (ليست الصديقة السابقة) بعد أن قرأت المخطوط إن ما أثار انتباهها هو النبرة الصحفية للحكي، وليس نبرة الرواية. ولقد كانت هي نفس الكلمات التي أوردتها صحيفة Espresso إذا لم تخنّي الذاكرة. لم يعجبني هذا الكلام في بداية الأمر، ولكني بعد ذلك فهمت ما أدركته تلك المرأة دون أن تجرؤ على الاعتراف بذلك. تلك كانت طريقة حوليي هذا القرن في الحكي، وإذا كنا اليوم نتحدث عن الإخباريات فلأننا نكتب ذلك كثيراً

العدد 3148 - الأربعاء 20 أبريل 2011م الموافق 17 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً