مع زيادة المشكلات البيئية بسبب الزيادة السكانية وضغوط التنمية الاجتماعية والاقتصادية على البيئة، تم تصميم الكثير من الطرق والمنهجيات الحديثة لمتابعة هذه المشكلات وتحليل أسبابها. وإحدى هذه الطرق هي منهجية «التقييم البيئي» المعروفة، والتي تستخدم لتزويد متخذي القرار بالمعلومات الأساسية عن حال البيئة وتطورها من الماضي إلى الوقت الراهن. إلا أن هذه المنهجية تقف عاجزة عن توقع تطور الوضع البيئي مستقبلاً، مثل تأثير ظاهرة تغير المناخ (الدفيئة) على ارتفاع مستوى سطح البحر وغمره للسواحل وتأثيراتها على قطاعات المياه والزراعة والتنوع البيولوجي والبنى التحتية الساحلية.
كما أن تطور هذه القضايا سيعتمد اعتماداً كبيراً على الخطوات والإجراءات الحالية والمستقبلية التي سيتم اتخاذها حالياً ومستقبلاً، وتمثل في مجموعها السياسات البيئية التي يجب اتخاذها لحل مشكلة بيئية ما، مثل الخطوات والإجراءات المطلوبة في مجال إدارة الهواء في المناطق الحضرية للتخفيف من تلوثه. ولكن كيف يمكن تقييم شيء غير موجود ولم يحدث بعد ويتأثر بالكثير من العوامل التي من الصعب تحديد اتجاهاتها المستقبلية؟
ولذلك تطور الفكر البيئي العالمي في مجال التقييم البيئي نحو منهجيات «التقييم البيئي المتكامل»، والتي تشمل بالإضافة إلى تقييم حال البيئة الراهنة، بناء السيناريوهات المستقبلية للبيئة، أي النظر لمدى أبعد من الغد، وتخيل المستقبل الأفضل الذي نريده لنا وللجيل الذي سيأتي من بعدنا، بالإضافة إلى تصور المستقبل الذي يمكن أن نصل إليه في حال استمرارنا في اتباع السياسات الحالية والتكهن فيما إذا كانت هذه السياسات كافية لتؤدي إلى المستقبل البيئي المأمول.
وتبدأ هذه المنهجية بجمع المعلومات البيئية وبناء المؤشرات الدالة على حال البيئة والقضايا البيئية الرئيسية، مثل تلوث الهواء والماء، أو تصحر الأراضي الزراعية، أو حجم النفايات، أو المخزون السمكي، أو التنوع البيولوجي...، وتحليل تطورها العام مع الزمن. ويتبع ذلك تحديد القوى والعوامل الرئيسية المباشرة وغير المباشرة المؤثرة فيها، والضغوط الناتجة عنها على البيئة، وتحديد الحال الراهنة لمتغيرات حال البيئة بسبب هذه الضغوط وتأثيراتها النسبية، وتأثيراتها الصحية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية. ويلي ذلك النظر إلى مستوى الاستجابة الحالية لها، أي تقييم فعالية السياسات البيئية الحالية ما إذا كانت في المستوى المطلوب ومعوقات تطبيقها. وتأتي بعد ذلك مرحلة بناء السيناريوهات المستقبلية للبيئة، وتشمل تحديد أهم القضايا البيئية والأفعال والسياسات المؤدية لها، وتخمين تبعات استمرار الأوضاع الراهنة على القضايا البيئية، وتحديد خيارات السياسات المستقبلية، ومن ثم محاكاة أو تصور تأثير كل خيار على البيئة.
وفي الدراسات البيئية تعرَّف السيناريوهات بـ «صور للمستقبل أو بدائل مستقبلية، وهي ليست تنبؤات أو إسقاطات، ولكنها صور لبدائل تصف كيف من الممكن أن يتجلى عليها المستقبل». أي أنها عبارة عن توقعات ورؤى مختلفة للتغيرات المستقبلية في المجتمع وتأثيراتها على البيئة، وذلك بناء على افتراضات معينة بشأن المتغيرات الرئيسية مثل النمو السكاني والاقتصادي والتقدم التكنولوجي والسياسات الاجتماعية - الاقتصادية والبيئية واتجاهاتها.
وتتكون السيناريوهات في الدراسات البيئية من العناصر الخمسة الرئيسية الآتية:
- وصف التغيرات التدريجية في الحال المستقبلية للمجتمع والبيئة، فعلى سبيل المثال سيناريوهات تغير المناخ تغطي التغير في درجة الحرارة والمتغيرات أو العناصر المناخية الاخرى مع الوقت والمكان. وهذه التغيرات يمكن تبيانها بهيئة شكل أو جدول او حتى على هيئة مقاطع تعبيرية مكتوبة.
- القوى المحركة أو الدافعة، أي العوامل غير المباشرة التي تؤثر على التغيرات التدريجية الموصوفة في السيناريوهات. فمثلاً بعض القوى المحركة لإنبعاث غازات الدفيئة هي السكان والنمو الاقتصادي والتنمية الصناعية ومعدل استخدام الطاقة.
- السنة الأساس، وهي السنة التي تبدأ منها السيناريوهات، وهي السنة التي تتوافر لها البيانات لوصف نقطة البداية للسيناريوهات.
- المدى الزمني ويصف السنين التي تغطيها السيناريوهات، ويعتمد اختيار المدى الزمني المناسب على الهدف من السيناريوهات، فمثلاً إذا كانت السيناريوهات تصف الإجراءات المطلوبة لخفض مستوى التلوث الهوائي في دولة ما فيمكن استخدام أو سنة كمدى زمني مناسب، أما إذا كانت تصف تأثيرات تغير المناخ العالمية الطويلة الأمد، فيكون من الأنسب استخدام سنة كمدى زمني. ويتم تقسيم المدى الزمني الكلي لفواصل زمنية تسمح بتتبع المتغيرات والعوامل المطلوبة، ففي الرؤية المستقبلية العالمية للمياه تم استخدام فاصلتين زمنيتين ما بين العام (سنة الاساس) والعام .
- محور القصة، وهو بمثابة سرد لقصة تصف السيناريو وتحتوي على مميزاته الرئيسية والعلاقات بين قواه المحركة ونتائجها لبعض المؤشرات.
تنقسم السيناريوهات إلى وصفية أو كمية. وتمثل السيناريوهات الوصفية سرداً لمستقبلات محتملة على هيئة خلاصات أو رموز بصرية (أشكال أو مخططات). ومن إيجابياتها أنها تستطيع أن تمثل وجهات نظر المتشاركين في بنائها المختلفة في الوقت نفسه وبإمكانها أن تكون وسيلة مبسطة وفعالة لإيصال المعلومات والافكار لشريحة كبيرة من الناس مقارنة بجفاف الجداول والأرقام التي تخاطب المختصين. ولكن من عيوب السيناريوهات الوصفية أنها ليست مبنية على الأرقام، وتعتبر هذه السلبية كبيرة نظراً إلى أن التقييم البيئي يحتاج إلى بعض التحاليل للبيانات والمؤشرات الرقمية، فمثلاً يحتاج تقييم تلوث الهواء لمعلومات رقمية عن حجم الإنبعاثات، ويحتاج تقييم حال المياه لمعلومات رقمية عن حجم الاستنزاف وتطور نوعية المياه، ويحتاج تقييم الثروة السمكية لمعلومات رقمية عن حجم الإنزال السمكي وأنواع الأسماك المصطادة.
أما السيناريوهات الكمية فتوفر المعلومات الرقمية على هيئة جداول وأشكال بيانية، ولكن من سلبياتها أن دقة ارقامها قد تعطي الانطباع بأننا نعلم عن المستقبل وتفاصيله أكثر مما نعلم بالفعل! فمثلاً عند تقدير إنبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم بأنه سيصبح جيجا طن بحلول العام ، فإن ذلك قد يفسره البعض على أننا نعرف بدقة بأن الانبعاثات ستصل إلى هذا الرقم في أحد السيناريوهات بعد سنة.
ومن السلبيات الاخرى للسيناريوهات الكمية انها مبنية على نتائج يتم الحصول عليها من نماذج الحاسب الآلي، وهذه النماذج تحتوي على افتراضات ضمنية عن المستقبل. وبالتالي فإن هذه النماذج تمثل وجهة نظر واحدة وضيقة عن المستقبل، بالإضافة إلى أن أساسيات ومبادئ النمذجة صعبة الفهم لغير المتخصصين. ولكن من إيجابيات السيناريوهات الكمية أن نماذجها الرقمية يتم تطويرها بناء على افتراضات يتم تحويلها إلى معادلات ومدخلات رقمية ومعاملات. وعلى رغم أن هذه غير مفهومة لغير المتخصصين فإنها مدونة بشكل واضح للجميع خلافاً للافتراضات التي تصاحب السيناريوهات الوصفية، إذ إن معظم الافتراضات في السيناريوهات الوصفية تظل في عقول الخبراء الذين شاركوا في بنائها.
ولذلك فإن التوجه الحالي في مجال بناء السيناريوهات هو الاستفادة من إيجابيات كلتا الطريقتين بدمجهما معاً، إذ يتم بناء السيناريوهات الوصفية ومن ثم يتم تدعيمها بالسيناريوهات الكمية بشكل متواصل، حتى الوصول إلى السيناريوهات النهائية وذلك دعماً لصدقية نتائجها.
وبالإضافة إلى التمييز بين السيناريوهات الكمية والوصفية فإنه يمكن التمييز بين نوعين آخرين من السيناريوهات، السيناريوهات الاستطلاعية والسيناريوهات التوقعية. فالسيناريوهات الاستطلاعية تبدأ من الحاضر وتستطلع اتجاهات المستقبل، بينما السيناريوهات التوقعية (تعرف كذلك بالمعيارية) فتبدأ برؤية محددة للمستقبل، ومن ثم الرجوع إلى الوراء في الزمن للتبصر في كيفية الوصول لهذا المنظور. فمثلاً يمكن أن نتصور أن يكون مستوى الانبعاثات الغازية في العالم عند مستوى معين نحن نريده في سنة معينة من المستقبل للمحافظة على طبقة الاوزون، ومن ثم يتم الرجوع إلى الوراء ونتصور كيف يمكن الوصول إلى هذا المستوى وما هي السياسات والإجراءات المطلوبة من الدول لتخفيف انبعاثاتها الحالية للوصول إليه (وهذا السيناريو هو أساس اتفاق كيوتو العالمي للحد من الانبعاثات الغازية). أو أن نتخيل مستقبلاً في الـ سنة المقبلة (أي عمر جيل واحد) تكون فيه حصة الفرد من المياه في دول مجلس التعاون في حدود متر مكعب في السنة مثلاً (حد الفقر المائي، حالياً متر مكعب)، وعليه نبدأ في تصور ودراسة البدائل والقوى المؤثرة في هذا المعامل مثل معدلات نمو السكان، والسياسات المائية والزراعية، ومعدل بناء محطات التحلية، ومعدلات إعادة استخدام المياه المعالجة، والخيارات الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار المؤثرات الخارجية العامة مثل التقدم التكنولوجي في مجال تحلية ومعالجة المياه وغيرها، ومن ثم تحديد التغير في جميع هذه العوامل والخيارات لتحقيق هذا الهدف.
قد يكون أفضل مثال يمكن طرحه لبيان هذه المبادئ في تفكير السيناريوهات وطريقة إعدادها هو ما تم إنجازه في مجال بناء السيناريوهات المستقبلية للبيئة في العام كجزء من سلسلة تقارير الرؤية المستقبلية للبيئة العالمية، والمعروفة بتقارير «جيو»، والتي يقوم بإعدادها برنامج الأمم المتحدة للبيئة بشكل دوري. فقد استغرق إعداد السيناريوهات المستقبلية للبيئة العالمية ولمنطقة غرب آسيا قرابة العام، تم فيه مشاركة أكثر من شخصاً من مختلف التخصصات من البيئيين والأكاديميين والمديرين التنفيذيين والاقتصاديين والمستثمرين والمفكرين والشباب وممثلي منظمات المجتمع المدني، وممثلي الوزارات المسئولة عن البيئة بدول غرب آسيا.
وشمل بناء سيناريوهات «جيو»
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1216 - الثلثاء 03 يناير 2006م الموافق 03 ذي الحجة 1426هـ