كفى ثم كفى... لا نريد ديكوراً زاعق الألوان لمنزلنا القديم المتهالك... لكننا نريد منزلاً جديداً من دون ديكور زاعق الألوان.
كان هذا هو الخاطر الذي غمرني، وأنا أحضر الجلسة الافتتاحية لأول برلمان عربي موحد قبل أيام في القاعة العتيقة للجامعة العربية، بدعوة كريمة من العزيز الأمين العام للجامعة عمرو موسى.
كدت أمزق مهابة الحفل الفخيم بصرخة تعبر عن هذا الخاطر، الذي أعرف أنه يراود كثيرين في أرجاء الوطن الكبير، لولا أن العقل ألزمني حكمة الصمت وفضيلة الإنصات، فلست عضواً في برلمان ولا مسئولا في حكومة، ولكنني مجرد ضيف عابر شاهد على حدث عابر!
ظل شيطان هذا الخاطر يضغط على أعصابي، بينما الكلمات المنمقة تتوالى والحضور الكريم يتابع، بعضه يتابع بانتباه وتأمل ورجاء، وبعضه الآخر يلهو بمسبحة في يده، أو فكرة بعيدة في عقله، أو يقاوم النعاس الذي يهاجمه، على رغم أهمية الحدث وتفرد المناسبة، مناسبة تكوين برلمان عربي يضم عضواً، بمعدل أربعة أعضاء عن كل دولة عضو بالجامعة، يستوي في ذلك برلمان يمثل بضع مئات الآلاف في هذه الدولة، مع آخر يمثل سبعين مليونا في تلك!
قلنا حسناً، ربما تكون المناسبة بداية جديدة مبشرة لعام جديد، يتخطى كل ما عانيناه من متاعب ومصاعب طوال العام الماضي، فهذا شكل من أشكال العمل العربي المشترك، تأخر عاماً بالتمام والكمال، ولكنه في النهاية جاء جزءاً من خطة تطوير وإصلاح الجامعة العربية، التي يتبناها بحماس منقطع النظير أمينها العام عمرو موسى، طامحاً في دفق دماء جديدة وروح جريئة في بيت العرب، الذي يتعرض هذه الأيام خصوصاً، لموجات متلاحقة وشرسة من الهجوم الهادف إلى تدميره وهدمه من الأساس، خدمة لرؤى ومصالح غربية وإسرائيلية، لم تعد خافية على عين ترى أو أذن تسمع أو قلب ينبض وعقل يفكر!
حين نعود إلى البدايات، فإن القمة العربية المنعقدة بالجزائر في مارس/ آذار ، وافقت على إنشاء برلمان عربي انتقالي لخمس سنوات، تمهيداً لإقامة برلمان عربي دائم، وذلك في إطار تنفيذ مقترحات الأمين العام للجامعة بتطوير وتحديث العمل العربي المشترك، وتعديل ميثاقها بما يلبي التمشي مع التطورات الحديثة.
الهدف إذاً واضح ومطلوب، ليس فقط لأن الاتحاد الإفريقي له برلمان مشترك، ولأن الاتحاد الأوروبي له برلمان فاعل وحيوي، ولكن أيضاً لأن العمل العربي المشترك بجامعته قد أصابه كثير من الركود والعجز، سواء بعوامل التعرية السياسية، أو بفعل فاعل من أهل البيت لا يريد مجرد ذكر العمل العربي المشترك وجامعته، كراهية شخصية أو ارتباطاً برؤى وأفكار أوروبية أميركية، لم تعد تطيق سماع شيء عن العروبة ووحدتها وعملها المشترك!
وعلى رغم ترحيبنا بكل ما يدعم العمل العربي المشترك انطلاقاً من أهداف ومصالح وثقافة مشتركة، فإن الطريقة التي ولد بها البرلمان العربي قبل أيام، تثير كثيراً من الأسئلة المستفهمة والمستنكرة معا لأنها نابعة من مخاوف وشكوك قديمة، أودت بتجارب أخرى في مجال العمل العربي المشترك إلى المقابر المعروفة وغير المعروفة.
غير أن السؤال المحوري الذي يدور حول هدف إنشاء البرلمان العربي وتوقيت إعلانه، يقول لماذا الآن؟... وهل هو إجراء شكلي، هدفه استكمال «الشكل الديمقراطي»، والايحاء بأن العرب يسيرون فعلاً في طريق الإصلاح والتحديث، الذي تلح عليه الدول الغربية، ولإلحاحها كل الثقل والاحترام والتقدير عند حكوماتنا الرشيدة، بينما إلحاح الشعوب العربية على ضرورات الإصلاح الوطني، لا يلقى الثقل والاحترام ذاتهما؟!
وعلى رغم أن حق الشك قائم حتى نصل إلى اليقين، فإننا لا نريد التعكير على خطوة إنشاء البرلمان العربي، فربما تكون فعلاً خطوة إلى الأمام ونقلة حضارية، تشيع في المدار العربي بعضا من التفاؤل بقرب الإصلاح، والدخول في مدار الأمم الحرة والديمقراطية الحديثة.
إلا أن روح التفاؤل الحذر لا تمنعنا من إعادة طرح الأسئلة الصعبة، من نوع: كيف يقوم برلمان عربي موحد على أسس غير برلمانية منتخبة انتخاباً شعبياً حراً؟، ذلك أننا في الواقع أمام خريطة سياسية متفاوتة الألوان، تسود الدول العربية الاثنتين والعشرين، فبعضها ليس لديه برلمان منتخب أصلاً، وربما بلا دستور مكتوب ومعلن، وبعضها الثاني لديه مجالس شورى شبه معينة أو نصف منتخبة ونصف معينة، وبعضها الثالث لديه برلمانات منتخبة وفق الطريقة العربية المشهورة، لكنها أفضل حالاً من غيرها... فكيف يستوي الأبيض مع الأسود، وكيف يتساوى المعين حكومياً مع المنتخب شعبياً!
تقول الخريطة السياسية العربية أيضاً، إن الغالبية الساحقة من أشكال البرلمانات ومجالس الشورى المعينة أو المنتخبة، تسقط ثمرة يانعة في قبضة الحكومات، بعد تغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وبعد تمركز السلطة كلها في يد الحاكم الفرد بمختلف مسمياته وألقابه، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى شلل كامل للبرلمانات الوطنية، فكيف ننتظر من البرلمان العربي الذي يستمد أعضاءه من البرلمانات الوطنية، أن يختلف ويتمرد على من جاء به أصلاً إلى الوجود ومنحه فرصة النشوء؟!
في هذا الإطار جاءت كلمة رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، في جلسة الافتتاح الأكثر تعبيراً عن واقع الحال، حين طالب الحكام والحكومات «أصحاب سلطة القرار» برفع أيديهم عن البرلمانات العربية لكي تمارس دورها... ولكن هل من مجيب... نشك كثيراً وكثيراً!
ثم نأتي إلى قضية أخرى، تحمل سؤالاً أكثر أهمية، عن طبيعة دور البرلمان العربي ومهمته، هل له حق ممارسة الدور المعروف وطنيا ودوليا للبرلمان، ونعني حق التشريع وإصدار القوانين النافذة من ناحية، وحق مراقبة أعمال السلطة التنفيذية من ناحية أخرى... هل له حق تعديل الدساتير العربية وقوانينها المملوءة بالثغرات والعقبات المعرقلة لأي تطور ديمقراطي حقيقي يطلق الحريات العامة المأسورة، وهل له حق مناقشة وتعديل الموازنات في الدول العربية، أو حتى موازنة الجامعة العربية كما تفعل البرلمانات الأخرى، وهل له حق نقد وتقويم اعوجاج سياسات الحكومات العربية فيما يتعلق خصوصاً بكبت الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، وفتح ملفات الفساد والعمولات والتهميش والظلم الاجتماعي والضغط الاقتصادي... نشك كثيراً أيضاً!
إن كل ما هو مخول للبرلمان العربي الموحد، وفق المادة التاسعة من نظامه الأساسي المكون من مادة هو البحث في سبل تعزيز العلاقات العربية، إصدار آراء وتوصيات بشأن الموضوعات المتعلقة بالعمل العربي المشترك، ومناقشة ما يحيله إليه مجلس الجامعة العربية أو الأمين العام، وإبداء الرأي فيها ليؤخذ في الاعتبار عند إصدار القرار، والإحاطة بموازنة الجامعة العربية وحسابها الختامي.
وكلها مهمات قاصرة على البحث والمناقشة وإبداء الرأي والاحاطة ورفع التوصيات إلى سلطة اتخاذ القرار، سواء كانت سلطة القمة أو مجالس الجامعة العربية، ومن هنا انتفت عنه صفة ومهمة البرلمان الحقيقي، سواء في التشريع أو في الرقابة، فمن أين يستمد شرعيته وقوته ونفوذه، إن فقد سلطة التشريع ورقابة السلطة التنفيذية ومحاسبتها ومساءلتها وطرح الثقة بها!
استكمالاً للأسئلة الصعبة التي يجب علينا إثارتها بكل صراحة، نتساءل أيضاً عن مدى قدرة البرلمان العربي، من دون استباق الحوادث، على دفع عجلة الإصلاح الديمقراطي العربي بسرعة وحسم وصدق تحقيقا لمطالب شعبية ملحة، قبل الخضوع لضغوط أجنبية سافرة، فهل يستطيع بحكم ما هو مخول له في نظامه الأساسي المؤقت أو الدائم أن يؤسس فعلاً لدولة القانون في العالم العربي، وأن يعمل على تحجيم هيمنة السلطة التنفيذية الحاكمة بشراسة وانفراد وصولاً للاستبداد العلني، وان يساهم في صيانة استقلال السلطة القضائية المعتدى عليها في كل مكان، وأن يصر على تحرير الصحافة والإعلام من القبضة الحكومية، فيضمن حرية الصحافة والرأي والتعبير، مقدمة حقيقية لباقي الحريات المأسورة والمصادرة بدرجات مختلفة، ما يضع الدول العربية في أدنى درجات التطور الديمقراطي في العالم كله، وفق المعايير الدولية المتعارف عليها!
نعرف أن هناك من يهب الآن صارخاً معترضاً قائلاً، لماذا تستبقون الحوادث، وتحكمون على البرلمان العربي بالفشل، قبل أن يبدأ ممارسة مهماته؟!
ونجيب، إن التجارب علمتنا كثيراً، والخطاب يقرأ من عنوانه، فقد ولد البرلمان العربي على شاكلة آبائه، ونعني البرلمانات الوطنية المعينة والمنتخبة على السواء، بكل ما تحمله من أمراض عصية على العلاج رافضة للشفاء، جاءت نتاج بيئة حاكمة قابضة مستبدة تتشابه من دولة إلى دولة، على رغم اختلاف الألوان ما بين الباهت والزاعق، فجاء المولود حاملا كل الجينات الوراثية للعائلة الكريمة.
نقول هذا، ومازال الأمل يحدونا في صورة مغايرة، ومازال بعض التفاؤل يراودنا، بقدوم المولود الجديد مع بدء العام الجديد، لعل خطأ في حساباتنا يقلب المعادلة الصعبة، فتختلف النتائج.
وأسباب الأمل والتفاؤل موجودة، كامنة في هذا الحراك الشعبي الغلاب المطالب بإصلاحات ديمقراطية حقيقية الآن قبل الغد، وفي رياح الحرية التي تهب في العالم كله، فلماذا نظل مختلفين عن غيرنا، وفي وجود عدد من أعضاء البرلمان العربي يؤمنون قولاً وفعلاً بالعمل الديمقراطي وبالممارسة البرلمانية الأصيلة، وفي مقدمتهم الصحافي المخضرم والبرلماني المجرب «محمد جاسم الصقر» أول رئيس لهذا البرلمان، الذي تعهد أمامنا بأنه لن يبقى على رأس هذا البرلمان، إن لم يتمتع بسلطة التشريع والرقابة.
فهل يستطيع البرلمان العربي الأول أن ينتزع حقه الدستوري، من فم الأسد، بل من أفواه كل هؤلاء الأسود؟!
خير الكلام
قال تعالى: «إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد» (الوعد: )
مدير تحرير صحيفة «الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1216 - الثلثاء 03 يناير 2006م الموافق 03 ذي الحجة 1426هـ