عندما اشتدت حركة المظاهرات المناوئة للحكم الشاهنشاهي في 14 يناير/ كانون الثاني ،1979 أعلن وزير الخارجية الأميركي حينها سايروس فانس أن شاه إيران محمد رضا بهلوي سيغادر بلاده لقضاء عطلة في الخارج، وكأن فانس وزيرٌ لخارجيتين: واشنطن وطهران، وكان الشاه مهووساً بالولايات المتحدة الاميركية، إلى درجة أنه أعلن أنها البلد الوحيد الضامن لسلامته، على رغم أن السادات عرضَ عليه المجيء إلى مصر، وهي دعوة قدّمها الرئيس المؤمن عن طريق السفير الأميركي في طهران وليان سوليفان. وفي أتون تلك المداولات بشأن سفر «ملك الملوك» كانت حركة الجماهير وصلت مداها ولم يعد أمام الشاه إلاّ أن يُلبّي نداء حافظ «في مواجهة المحنة فإنه من الحكمة أن تلزم مسافة من الأمور، فبعد تلاشي الضجيج واضطرابات هذا العالم، لن يتبقى منا في النهاية إلاّ الخير الذي فعلناه في هذه الدنيا»، على رغم أن خير الشاه قد تقلّص شبراً فشبر، بمقص الظلم المنهجي بحق شعبه وبحق المنطقة. وكانت ثروات هذا البلد الغني قد وُزّعت على المتنفذين وأصحاب الذوات، بإيعاز من الشاه نفسه الذي لم يكن يلتفت إلى حجم المال المهدور من خزينة الدولة، في سبيل امتلاك تاج مُرصّع بمئات القطع من الألماس، أو اقتناء طائرة خاصة استُنسِخَ أثاثها ومَرَافِقها ما كان موجوداً في قصر نيافران الذي يُطِلُّ على المدينة، ووصل الفُحش به أن يُنفق على حفلة واحدة خمسين مليون دولار، وأن يأكل عشاءً من طاه فرنسي يُجلَب له خِصيصاً من باريس، ثم يُشاهَد وأفراد أسرته على الجياد العربية الأصيلة في براري وسط إيران، وسط موكب إمبراطوري كئيب، في الوقت الذي كانت الأرياف الإيرانية تفتقر إلى الكهرباء والماء، وفقر وبطالة حتى شحمة الأذن. كما كان نصف الشعب (ستة عشر مليوناً) أمياً لا يقرأ ولا يكتب. لقد سيطرت الأسرة البهلوية على الأراضي الزراعية الخصبة، وعلى حركة التصنيع والإنتاج والصرافة، فقد كان الشاه يملك 830 قرية، مع مساحة تُقدّر بمليونين ونصف المليون هكتار من الأراضي الزراعية، عادت إليه من والده رضا بهلوي الذي استولى عليها عنوة وبشكل جنوني، وكان قسم منها يقع على شاطئ بحر قزوين. كما كان الشاه يملك بنك العُمران برأسمال تجاوز في العام 1978 الستة مليارات فرنك فرنسي، ومؤسسة دارو بخش المتعهدة بتوزيع الدواء، ثم معمل الاسمنت في محافظة فارس وفي درود» ومعمل السكّر في فريمان وفي قهستان وفي الأهواز» ومعمل بارس الكبير وشركة الأسهم والتأمين في شركة الخليج لنقل النفط» ومعمل الأرترنيك ومعمل إطارات بي إف غودريج. وبالمحصلة فإن عائلة بهلوي كانت تملك 17 مصرفاً وشركة تأمين و25 مصنعاً لإنتاج الصناعات الفلزية، وثمان شركات تعود إلى الصناعات المعدنية، وعشرة معامل لإنشاء المواد الإنشائية والبنائية، وخمسة وأربعين شركة خدمات عمومية، وثلاثة وأربعين معملاً لتهيئة المواد الغذائية. وفي الوقت الذي كان الشاه يمارس عملية تمليك رهيبة، اعتمد سياسة استيراد المنتجات المصرفية والاستهلاكية والكماليات، إلى الحد الذي وصل فيه ميناء خرمشهر وشاهبور أن حويا 400 سفينة تنتظر تفريغ حمولتها لمدة خمسة أشهر، ما اضطر حكومة إيران آنذاك إلى أن تدفع أكثر من مليار دولار غرامات بين العامين 1975 و،1976 بسبب تأخير السفن التجارية. كما أن الشاه وقّع أكبر معاهدة تجارية مع الولايات المتحدة الأميركية العام ،1974 بلغت كُلفتها 15 مليار دولار للتجهيزات العسكرية والمواد الغذائية والمصرفية. ثم ذهب إلى أكثر من ذلك، عندما اعتمد سياسة إقراض الدول الأوروبية من عوائد النفط، فقد تسلمت بريطانيا قرضاً بقيمة مليار ومئتي مليون، كما تسلمت فرنسا قرضاً بقيمة مليار دولار، وحازت قبرص أيضاً على عشرات الملايين من الدولارات باسم الهبات، واستطاعت بعض الشركات الأميركية كشركة «بان أميركان» و«كروب» من سد العجز الذي واجهها بمساعدة الشاه المالية مقابل تخصيص أسهم له بحدود 2,5 في المئة. وأدت تلك السياسات مجتمعة إلى أضرار اقتصادية كبيرة، واستنزفت جزءًا كبيراً من احتياطي العُملة الصعبة. الغريب أن كل من تحدث مع الشاه قُبيل مغادرته إيران بداية العام ،1979 وجده أجهل الناس بأوضاع بلده، على رغم أنه كان يحكم إيران منذ 17 سبتمبر/ أيلول ،1941 وكان يقول: «إن ما لا أفهمه هو السبب الذي يدفع الشباب إلى اعتناق هذه الأفكار الدينية والتقليدية التي لم تُثِر حتى الآن إلاّ اهتمام الأشخاص المُسِنِّين». وكان يقول أيضاً: «من أين يأتي هذا العصيان وهذا الاضطراب الآخِذان في الانتشار؟ من هو المُحَرِّض عليهما؟ من يُدير هذه المعارضة؟ من أطلق هذه الحركة الدينية؟ لقد كان الشاه تائهاً بين أسماء عدّة لهذه التُهمة الجوّالة، فأثبت أنه عاجز عن حُكم بلده وهو حيّ يُرزق، وبمساندة أميركية منقطعة النظير، في الوقت الذي استطاع الإمام الخميني (رض) أن يَحكُم إيران وهو في قبره بقوة كاريزمية نادرة استحصلها من مسيرة سبعين سنة من مداراة الناس والعيش معهم. فكما عاش مُستأجراً لدار تُؤويه وعائلته في تركيا والنجف الأشرف و«نوفل لوشاتو»، عاش بعد الثورة كذلك، من دون أن يلتفت إلى أنه زعيم لأحد أهم البلدان ثراءً في العالم. * كاتب بحري
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1215 - الإثنين 02 يناير 2006م الموافق 02 ذي الحجة 1426هـ